Thursday 14 August 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: الانعكاسات، الشاشات، وحكايات الذات

 
 
نعيمة بنعبد العالي: الانعكاسات، الشاشات، وحكايات الذات نعيمة بنعبد العالي

من خلال جولة بين الأساطير القديمة، والطرائف الشعبية، والتأملات المعاصرة، يتأمل هذا النص علاقتنا بالانعكاس. من المرآة المصقولة في العصور القديمة إلى الفلاتر المثالية في صور الـ«سيلفي»، لم تتوقف صورة الذات عن التحوّل. لكن خلف لعبة المظاهر، تظل هناك الرغبة القديمة نفسها: أن نرى أكثر مما تعكسه المرآة. بين الفكاهة والتحليل، تدعونا الكاتبة إلى النظر إلى الـ«سيلفي» بوصفه آخر ابتكار بشري ليروي — وأحيانًا ليعيد اختراع — قصتنا الشخصية.

 

لم نعد نبحث عن انعكاسنا… بل نصنعه.


من المرايا القديمة إلى صور السيلفي المصفّاة، هذه حكاية أقدم كذبة نحكيها لأنفسنا.

 

منذ أن تجرّأ الإنسان على النظر في صورته، وهو يفتّش فيها عمّا لا يُرى. لم يكتفِ بوجهه، ولا بعينيه، ولا بظلٍّ يلاحقه. أراد أن يرى نفسه كما يحلم أن يكون، لا كما هو.

 

المرايا أعطته نصف الحقيقة، فاتهمها بالبخل. الصور منحته لحظة ثابتة، فاتهمها بالبرودة. وحده الـ«سيلفي» وعده بحكاية كاملة، حتى لو كانت كاذبة.

 

في صباحٍ ما، وجد جحا قطعةً مكسورة من مرآة على الطريق. نظر فيها، قطّب حاجبيه، وبدا عليه الانزعاج مما رأى، فرماها بعيدًا وهو يقول: ابتعدي عن وجهي! الآن فهمتُ لماذا كسروكِ.

كلّنا، بطريقة أو بأخرى، نشبه جحا: نطلب من الانعكاس أكثر مما يستطيع أن يعطينا. نطالبه بإثبات الجمال، أو الشباب، أو حتى السعادة، وهو ليس سوى ظلّ عابر، عاجز عن أن يكذب علينا… أو أن يواسينا. ولعلّ هذا هو سبب حبّنا الشديد لصور الـ«سيلفي». فهي لا تكتفي بعكس صورتنا، بل تعيد تشكيلها. تمنحنا ما يرفضه الانعكاس المباشر: وجهًا نريد أن نصدّقه، ويمكننا أن نجعل الآخرين يصدّقونه أيضًا.

في هذا العصر المغمور بالمحاكاة والتمويه، لم يعد الـ«سيلفي» مجرد صورة شخصية. بل صار حكايةً للذات، مصمّمة بعناية، مصفّاة بالمرشّحات، وقابلة للمشاركة. كذبة بصرية صغيرة، أنيقة، تشبهنا… ولكن ليس تمامًا.

فنحن بطبيعتنا نحب أن نسرد القصص عن حياتنا، وعن اختياراتنا، وعن ذواتنا. نُجري عليها تعديلات كما نفعل مع الصور: نمحو مناطق الظل، نُبرز الضوء، نضيف خلفية مبهرة. الـ«سيلفي» هو الرسّام الصامت لهذه الرواية الداخلية: يرصّ الصور كما تُرصّ الخرزات على خيط، حتى تمنح حياتنا انسجام الحكاية. لا يهمّ إن كانت الحكاية حقيقية، يكفي أن تكون جذّابة، «مقنعة» للآخرين، وأحيانًا… لنا أنفسنا.

في زمنٍ مضى، كان الانعكاس يُكتشف في أداة نادرة، ثمينة، شبه سحرية. في روما القديمة، كانوا يصقلون الفضة أو البرونز للحصول على صورة ضبابية، تُلمح أكثر مما تُرى. وفي مصر، كانت المرآة الدائرية من المعدن اللامع رمزًا شمسيًّا، تلتقط الضوء وتعيده، كأنها تحمل قطعة من الإله. لم تكن تُستخدم فقط لتعديل الشّعر أو المظهر، بل للبحث عن إشارة، رسالة، كما لو أن السطح يمكن أن يكشف شيئًا من الروح.

في ثقافات كثيرة، كان الانعكاس أكثر من صورة: كان عتبة. في الحكايات الأوروبية، كان الانعكاس يبشّر أو يحذّر أو يكذب («مرآتي، مرآتي الجميلة…» حين تسائل زوجة الأب المرآة في حكاية بياض الثلج والأقزام السبعة). في التقاليد الآسيوية، الانعكاس يطرد الأرواح الشريرة، لأنه يعكس صورتها ويُجمّدها.… في المغرب، يتجنّب البعض الإطالة في النظر إليه، خشية أن يتيه ظلّ الروح فيه.

ومع مرور القرون، بدأت المرايا تفقد شيئًا من هالتها الغامضة لتدخل ببطء في الحياة اليومية، من رمز روحي إلى أداة عملية. عندها ظهر السؤال: إذا زال السحر، فماذا سيبقى للانعكاس؟

ثم جاءت المرآة الحديثة، التي بلغت الكمال في القرن السابع عشر في البندقية، وأصبحت من مقتنيات النخبة ثم عامة الناس. رأى البشر أنفسهم أخيرًا بوضوح، ولم يكن ذلك مجرد رفاهية: لقد غيّر علاقتهم بالعالم. فلاسفة التنوير، المأخوذون بفكرة الوعي بالذات، رأوا فيها أداة للتفكير بالمعنى الحرفي للكلمة. صار الفرد قادرًا على التأمل في نفسه، وعلى أن يفكّر فيها. صدى الفكر وصورته ليسا مجرد انعكاسٍ للأفكار، بل هما لحظة التقاء المرء بنفسه. لحظة يرى فيها عقله وهو يعمل، ويرى أثره كما لو كان ينظر إلى صورته في ماء صافٍ. هنا تبدأ يقظة الوعي، حين يكتشف الفكر أنه ليس مجرد أداة، بل ناظرٌ ومَنْظور في آن واحد.

 

لكن ذلك الوضوح حمل وعدًا وفخًّا معًا. فكلما ازدادت الصورة دقة، ازدادت رغبتنا في أن تكون جميلة. ومن هنا جاء ازدهار فن البورتريه المرسوم، ثم المصوَّر: تثبيت نسخة مثالية، منتقاة بعناية. كانت الصورة الفوتوغرافية على الفيلم، البطيئة والنادرة، ما تزال تمنح هالة الماضي: كان لا بد من الانتظار، اختيار اللحظة، التهيؤ لها. لكن هذه اللحظات النادرة كانت تمنح الصورة قيمة خاصة، كأنها ذخيرة شخصية لا تُستبدل. حتى جاء زمن جديد، حيث لم يعد للصبر مكان، وحيث يمكن للصورة أن تولد وتموت في اللحظة نفسها.

ثم جاء العصر الرقمي الذي ألغى الندرة. وُلد الـ«سيلفي» في عالمٍ لم تعد فيه الصورة تكلّف شيئًا، ويمكن تكرارها بلا نهاية، مع تعديلها في كل مرة. انتهى زمن الصبر: الآن نصنع نسخة معدّلة فورًا، لِتُغري أو تُطمئن أو تُثير.

الانعكاس القديم كان يعطينا ما نحن عليه. الـ«سيلفي» يمنحنا ما نريد أن نكونه. من منظور أنثروبولوجي، هذا انتقال من التأمل إلى البناء. من انعكاس الواقع إلى انعكاس الرغبة.

وهنا تبدأ المفارقة. فكل صورة سيلفي، عندما تنتشر على الشبكات، تصبح بمثابة قربان صغير للآخر الجمعي، لذلك الجمهور الخفي الذي يمنح «الإعجابات» كما كان الناس يمنحون البركات أو العطايا. لكن هذا القربان ليس بلا مقابل: إنه يطلب العودة، القبول، الاعتراف. لم يعد انعكاسًا فحسب، بل صار عملة اجتماعية.

ولهذا، فالـ«سيلفي» لا يتحدث عن الذات وحدها، بل عن الآخرين أيضًا. عن ذلك الاحتياج العميق، القديم، لأن نُرى، لأن نُعترف بنا، لأن نكون جزءًا من سرد جماعي. في وحدة الزحام، يصبح وسيلة لإلقاء زجاجة في البحر، إلا أن البحر هنا محيط من الوجوه، والزجاجة تحمل صورتنا نحن.

كان الانعكاس القديم يحصر التبادل في إطار مغلق، صامت، حميم، وأحيانًا مذنب. الشاشة الحديثة تفتح المشهد على العالم كله، لكن هذا العالم غالبًا ما يكون غائبًا، شاردًا، أو غير مكترث. يصبح السيلفي فعلًا متناقضًا: صرخة صامتة موجهة إلى عيون لا تستقر، ومحاولة لتثبيت صورة في عالم يندفع بسرعة فائقة.

ربما كان فرويد ليرى فيه تسوية بين النرجسية الأولى والحاجة إلى الحب: نحب أنفسنا لننال حب الآخرين. أما لاكان، فقد يراه مسرحًا لـ«مرحلة المرآة» يُعاد تمثيلها عند كل ضغطة زر: الطفل الذي يتعرف على نفسه لأول مرة، يعيد التجربة في الكبر، لكن هذه المرة الانعكاس يرد، يعلّق، ويحكم. وربما كانت هذه هي الإضافة الكبرى: المرآة المحمولة اليوم لا تكتفي بعكس وجوهنا، بل تمنحنا حكمًا.

وأحيانًا، في مترو مزدحم، أو مقهى صاخب، أو شارع تفيض أضواؤه، أرى شخصًا يلتقط صورة لنفسه. العالم حوله يذوب، كأن الزحام والسيارات والأصوات انكمشت جميعها في ضباب صامت. في الشاشة، لم يبقَ سوى وجه ينظر إلى نفسه، يبحث عن نفسه.

الحركة سريعة، تكاد لا تُرى، لكنها تحمل قدرة غريبة: إيقاف الزمن للحظة، لإثبات أننا موجودون. كأن الكون كله يختزل في لمعة على وجنة، أو نظرة مترددة، أو ابتسامة مخترَعة.

وعندما تُلتقط الصورة، يعود العالم إلى سرعته، وتغلق الجموع صفوفها، وتواصل الحياة تفرّقها. لكن هناك، في سحابة من البيانات، يبقى ذلك الجزء الصغير من الذات، يطفو مثل شظية انعكاس تائهة في البحر.