في عصر الذكاء الاصطناعي، لم تعد الفتوى الإسلامية حكرًا على العلماء والفقهاء والدعاة وطلبة العلم الذين أمضوا سنوات في دراسة الشريعة الإسلامية والفقه والتفسير والحديث وعلوم القرآن الكريم واللغة العربية وغيرها من دروب العلم والمعرفة؛ بل أصبحت الخوارزميات والأنظمة الذكية قادرة على إنتاج إجابات شرعية في ثوانٍ، اعتمادًا على كم هائل من النصوص والمصادر المخزنة.
هذا التحول يحمل في طياته فرصة كبيرة لتيسير الوصول إلى المعلومة الدينية، لكنه في الوقت نفسه ينطوي على مخاطر جمة، قد تهدد سلامة الفهم الديني وصحة الممارسة الشرعية، كما تطرح في المقابل تحديات عميقة تمس الأمن الفكري والروحي للأمة الإسلامية؛ لأن الفتوى الشرعية الحقيقية هي ليست مجرد إجابة تقنية أو معلومة جامدة، بل هي حكم شرعي قد يترتب عليه تغيير حياة الدول والأفراد والمجتمعات، وإذا ما صدرت الفتوى عن نظام ذكاء اصطناعي يفتقر إلى الحس الإنساني والسياق الاجتماعي، والمقاصد الشرعية ، فقد تكون النتائج كارثية، فالخوارزمية لا تدرك نيات المستفتي ولا ظروفه الخاصة، وقد تقدم حكمًا مجتزأً أو خارج سياقه، مستندة فقط إلى نصوص محفوظة دون مراعاة مقاصد الشريعة وأحوال الناس وظروفهم الزمانية والمكانية؛ لأن الفتوى من طبيعتها تتأثر بالزمان والمكان وغيرهما من الظروف المحيطة بها، وبالتالي فلا يتصور أن ما يفتي به زيد في مسألة معينة في بلد ما سيفتي به بالضرورة عمرو في نفس المسألة. ولقد تحدث السادة العلماء عن هذا كثيرا وبينوه في كتبهم، وجلبوا له الأدلة والبراهين من السنة وعمل الصحابة، ومن هذا ما نقله الزرقاني في شرحه للموطأ من أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.. إضافة إلى ذلك، هناك خطر التلاعب بالفتوى الشرعية عبر الذكاء الاصطناعي، سواء من قبل جهات حزبية أيديولوجية أو سياسية، أو حتى من خلال ثغرات تقنية تؤدي إلى تحريف الفتاوى أو توجيهها لخدمة أهداف معينة. هذا التحدي يفتح الباب أمام ظاهرة "الفتوى الموجهة" التي قد تستخدم لتبرير العنف أو نشر التطرف والإرهاب أو العكس، لتمرير تفسيرات مضللة تخالف النصوص القطعية، وماهو معلوم من الدين بالضرورة، والتحدي الأخطر يتمثل في إمكانية التلاعب بالمحتوى الشرعي عبر الخوارزميات، فبمجرد برمجة النظام أو توجيهه من قبل جماعات دينية متطرفة ذات أهداف أيديولوجية أو سياسوية، يمكن إنتاج فتاوى موجهة تدعم التطرف أو تبرر العنف ، مما يهدد استقرار المجتمعات ويضرب وحدة الصف الإسلامي، وفي ظل الانتشار السريع للمعلومة الرقمية، قد تنتشر كذلك فتوى مغلوطة بين ملايين المستخدمين خلال ساعات، ويصعب لاحقًا تصحيح أثرها ، وهناك أمثلة كثيرة وواقعية حصلت في هذا الباب تكشف حجم الخطر لما يمكن أن تسببه الفتاوى الشرعية فما بالك بفتاوى الذكاء الاصطناعي .
في عام 2024 ، تداولت منصات التواصل في إحدى الدول العربية فتوى آلية تحرم تناول دواء معين لمرضى مزمنين بدعوى احتوائه على مادة "نجسة" . لم يستغرق الأمر أكثر من يومين حتى توقف عشرات المرضى عن تناول الدواء، ما تسبب في تدهور حالات بعضهم. لاحقًا، خرجت هيئة الإفتاء الرسمية في هذا البلد لتؤكد أن الفتوى خاطئة وأن المادة المذكورة تتحول كيميائيا ولا تأثير شرعي لها. لكن الضرر كان قد وقع بالفعل.
كما أن الانتشار الواسع والسريع للمعلومة في عصر الذكاء الاصطناعي يجعل من الصعب تصحيح الأخطاء أو سحب الفتاوى المغلوطة بعد تداولها، إذ يمكن أن تنتشر بين ملايين المستخدمين خلال دقائق، وتترسخ في أذهان الناس كحقائق ثابتة.
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب وعيًا مجتمعيًا وإطارًا رقابيًا واضحًا، بحيث يبقى إصدار الفتاوى من اختصاص العلماء المؤهلين، والمؤسسات الرسمية المعتمدة، مع استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا كبديل عن الاجتهاد البشري. كما أن المؤسسات الدينية مطالبة بتطوير منصات ذكية موثوقة، تجمع بين الدقة التقنية والعلم الشرعي، وتعمل على توعية الجمهور بالفارق الجوهري بين الاستشارة الدينية الآلية والفتوى الشرعية الحقيقية.
فالفتوى في النهاية ليست مجرد مخرجات حسابية، بل هي مسؤولية دينية وأمانة علمية، وإذا تركناها بلا ضوابط في عصر الذكاء الاصطناعي، فإننا قد نفتح الباب أمام فوضى شرعية غير مسبوقة، تهدد استقرار الفكر الديني وتماسك المجتمعات.
لأن عهد الذكاء الاصطناعي لم تعد
فالفتوى في النهاية ليست مجرد مخرجات حسابية، بل هي مسؤولية دينية وأمانة علمية، وإذا تركناها بلا ضوابط في عصر الذكاء الاصطناعي، فإننا قد نفتح الباب أمام فوضى شرعية غير مسبوقة، تهدد استقرار الفكر الديني وتماسك المجتمعات.
لأن عهد الذكاء الاصطناعي لم تعد
الفتوى في العالم الإسلامي والعربي حكرًا على المجالس العلمية ودور الإفتاء، فبفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، يمكن لأي شخص أن يحصل على إجابة شرعية خلال ثوانٍ، عبر تطبيقات ذكية أو روبوتات محادثة، دون المرور على مؤسسة علمية رسمية أو عالم أو فقيه مؤهل.
ورغم ما تحمله هذه الثورة الرقمية من فرص لتيسير المعرفة ونشر الوعي، فإنها تطرح في المقابل تحديات عميقة تمس الأمن الفكري للأمة الإسلامية.
ختاما، إن الأمن الفكري للأمة الإسلامية بات يواجه تحديًا داخليًا غير مسبوق، يتمثل في فوضى الإفتاء الرقمي، وإذا لم تُسنّ ضوابط صارمة لهذه الممارسات، فقد نجد أنفسنا أمام جيل يتلقى دينه من آلة، ويطبق أحكامه بلا فقه ولا بصيرة، وهو ما قد يفتح الباب أمام فوضى شرعية تهدد وحدة الدول الإسلامية واستقرارها.
الصادق العثماني - أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
