قال يوسف حميتو، الأستاذ الباحث في الدراسات الإسلامية، أن بلاغ الملك محمد السادس حول توجيهاته للمجلس العلمي الأعلى لدراسة مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ورفع فتوى بشأنها، يعكس التزام الملك بمواكبة التغيرات المجتمعية مع الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية للمملكة المغربية.
وسلط الباحث حميتو الضوء على الأبعاد المختلفة لهذا البلاغ، محللا الرسائل الموجهة من الملك إلى مختلف الجهات والمؤسسات في الدولة، والتي تجتمع في جملة واحدة ذكرها الملك في افتتاح أشغال البرلمان في أكتوبر 2003، وكررها في خطاب العرش الموجه إلى الأمة في 30 يوليوز 2022، والتي عنوانها: “بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا”.
فيما يلي نص التصريح الذي توصلت جريدة "أنفاس بريس" بنسخة منه:
إمارة المؤمنين: القيادة الدينية حفظ لمقومات الهوية وخدمة للمصالح الوطنية
لا يفوت الملك محمد السادس مناسبة دينية أو وطنية للتأكيد على مقومات الأمة المغربية المتمثلة في الإسلام، والملكية والمذهب المالكي، وهي خصوصيات تحدد مرجعية الدولة وهويتها وتوجهها الذي لا يرى ولا يفترض أي تعارض بين الهوية والتحديث، كما يؤكد على أنه بصفته أميرا للمؤمنين فهو الساهر الحامي لحمى الوطن والدين حسا ومعنى، ومن بين صور هذه المهمة المقدسة أنه يمارس مهام إمارة المؤمنين في إطارها المؤسسي الدستوري، وهو ما ثبت سنة 2005 في رسالته للمجلس العلمي الأعلى المتعلقة بإعمال المصلحة المرسلة كوعاء اجتهادي قادر على إنتاج أحكام شرعية للقضايا التي تنزل بالأمة أفرادا ومجتمعا، لقد أكد الملك بصفته أمير المؤمنين على أهمية توعية الناس بأصول المذهب المالكي التي طالما اعتمدتها المملكة لمواكبة المتغيرات من خلال الاجتهادات الفقهية المتنورة التي توفر إطارًا مرنًا للتكيف مع التحولات الزمنية والاجتماعية.، وهو التوجيه ذاته الذي تضمنه بلاغ الديوان الملكي للمجلس الأعلى، وهو ما يعكس حرص أمير المؤمنين على ضمان تماسك الأحكام الشرعية والقانونية بما يخدم مصالح المواطنين ويعزز الاستقرار الاجتماعي.
القيادة الملكية الشاملة: توجيهات دينية وسياسة متكاملة
في هذا السياق، وجه الملك محمد السادس في أكتوبر 2023، بصفته السياسية رسالة إلى رئيس الحكومة بخصوص موضوع تعديل مدونة الأسرة، أكد الملك على رئيس الحكومة بصفته رئيس السلطة التنفيذية وجوب إصلاح المقتضيات التنزيلية لمدونة الأسرة وفق محددات موضوعية وواقعية متمثلة في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، حيث قال حرفيا: “إن مدونة الأسرة أضحت اليوم في حاجة إلى إعادة النظر بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطن”، ورعيا للعلاقات التكاملية بين مؤسسات الدولة شدد جلالته على فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار بين جميع المؤسسات المعنية، وهذا الربط المتين بين الشأنين الديني والسياسي المجتمع في منصب الملك أمير المؤمنين يعكس الوضوح التام الذي لدى المؤسسة الملكية لدورها لشامل في قيادة البلاد نحو التقدم والازدهار. هذا الجمع بين الشأن الديني والسياسي من خلال نموذج القيادة الملكية، يجسد نموذجًا فريدًا يضطلع فيه الملك بدور رئيسي في التوجيه والإرشاد الديني، ويشرف على إصدار الفتاوى الرسمية المتعلقة بالشأن العام. بصفته ملك البلاد، يقود الملك السلطة التنفيذية ويوجهها بما يخدم المصلحة العامة.
دراسة تعديل مدونة الأسرة: رؤية ملكية للاعتدال والاجتهاد
في إطار التوازن في التعامل مع المؤسسات، واحترام تخصصاتها، أكد الملك محمد السادس في مناسبات مختلفة أهمية دور المجلس العلمي الأعلى في تدبير الشأن الديني، وضمن خصوصيات وخصائص أنموذج التدين المغربي الأصيل، والذي يمتاح من مسار تاريخي طويل للدولة المغربية، وهو ما عبر عنه في رسالة تأطير المجلس العلمي الأعلى بعد تأسيسه، حيث قال: ” وفي هذا السياق قررنا أن تكون فاتحة أعمال المجلس العلمي الأعلى تكليفه، طبقا لما يراه من رأي فقهي متنور، بتوعية الناس بأصول المذهب المالكي، ولا سيما في تميزه بالعمل بقاعدة المصالح المرسلة، التي اعتمدتها المملكة المغربية على الدوام، لمواكبة المتغيرات في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، من خلال الاجتهادات المتنورة، لأسلافنا الميامين ولعلمائنا المتقدمين، وهو الأصل الذي تقوم عليه سائر الأحكام الشرعية والقانونية المنسجمة والمتكاملة، التي تسنها الدولة بقيادتنا، كملك وأمير المؤمنين، في تجاوب مع مستجدات العصر، والتزام بمراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وصيانة الحقوق وأداء الواجبات”.
لقد أكد البلاغ الملكي الجديد هذا الدور لمؤسسة العلماء بإسناده دستوريا دراسة المقترحات المتعلقة بتعديل مدونة الأسرة إلى المجلس العلمي الأعلى، استنادًا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده السمحة. وفي سياق وعي المؤسسة الملكية بتأثير الواقع في الاجتهاد وإنتاج الحكم الشرعي، وجه جلالته المجلس العلمي إلى استحضار مضامين رسالته إلى رئيس الحكومة التي تدعو إلى اعتماد فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء، وعدم السماح بتحليل حرام أو تحريم حلال قطعي منصوص عليه.
إن مضمون بلاغ الديوان الملكي إنما يذكر مؤسسة العلماء بالتزامها الذي أعربت عنه في رسالتها الجوابية على رسالته سنة 2005، حيث قال العلماء: “هذه مبادرة حضارية عميقة الدلالة، وخطوة تأسيسية واسعة المدى، أعادت إلى الواجهة سلوكا راقيا عرفته أمتنا في فترات مجدها السياسي وتألقها الحضاري، حينما كان الملوك والخلفاء، يوجهون العلماء إلى قضايا ذات آثار عملية وبعد اجتماعي، وينتدبونهم إلى الاشتغال بها”.
كما يذكرهم بإقرارهم على أنفسهم في ذات الرسالة حين قالوا:” إن علماء مملكتكم، يا مولانا، قد التقطوا كل الإشارات الملكية، ووعوا كل التصريحات الجلية التي ما فتئت توجهها إلى مؤسسة العلماء، وهي إشارات وتصريحات تعبر عن أكيد رغبتكم في أن تتبوأ مؤسسة العلماء موقعها الذي يتيح لها الإسهام الجاد في صناعة مغرب التوازن المعتز بهويته الإسلامية، الناهض بكل الواجبات التي تفرضها ضرورة انخراطه في العصر”.
وكذلك الأمر حين التزموا ضمنيا بالحوار الإيجابي مع مختلف المكونات المغربية وذلك حين قالوا: “إن هذه الرغبة منكم قد أصبحت لدى المتتبعين ثابتا حاضرا وملحظا مركزيا في أسلوب جلالتكم في تدبير الشأن الديني، استصحابا لأسلوب الخلفاء في علاقتهم مع العلماء، وإيمانا بأن العلماء هم نعم العون لأمير المؤمنين على حراسة الدين، كما أن الأطر والكفاءات العلمية والتقنية الوطنية هم العون له على سياسة الدنيا، مع استحضار كل الجسور الواصلة بين الديني والدنيوي، في التصور الإسلامي لمؤسسة الدولة”.
رسائل ضمنية في بلاغ الديوان الملكي بخصوص مدونة الأسرة:
يبعث البلاغ الملكي برسائل ضمنية صارمة إلى جهتين:
– الأولى: التيارات الشعبوية بمختلف توجهاتها السياسية والأيديولوجية الدينية، وخاصة تلك التي تزايد على المؤسسة الملكية في حماية الهوية الدينية للمملكة، حيث يؤكد البلاغ الملكي على الدور الدستوري للمؤسسة الملكية حيث يشدد البلاغ على أن التعديلات يجب أن تستند إلى الهوية الدينية والتاريخية للمملكة، دون انغلاق على السياق الحضاري المعاصر، وهو ما يعني استمرارية واستدامة التزام المؤسسة الملكية لمضمون عقد البيعة الشرعية التي تجمع بين الملك والشعب المغربي عبر تاريخهما.
– الثانية: إلى دعاة الفتن وزعزعة الاستقرار الديني والروحي والسياسي للمملكة أيا كان مَصْدَرها ومُصَدِّرُها، وخاصة تلك الجهات الخطابية التي تستورد هوية غريبة عن المجتمع المغربي اعتقادا وسلوكا، أو فكرا وسياسة.، حيث إن ثلاثية العقيدة والسلوك، والمذهب الفقهي، والمذهب السياسي في الحكم، تبقى هي الثوابت التي لا يمكن السماح بمناقشتها في أصولها العامة، لكن دون أن يلغي ذلك ممارسة الحريات في إطار حماية النظام العام وربط حرية التعبير بالمسؤولية عن نتائجها ضمن السياق الوطني.