الأم التي ودعتني وهي توصني بطفلتها...
تقدمت ألأم سعاد رفقة زوجها الى مكتبي لإنهاء عملية تسجيل ابنتهما مريم في المدرسة الابتدائية بأمستردام. بدت خجولة في الوهلة الأولى. لم تمد يدها لمصافحتي كما بادرني زوجها واكتفت بانحناءة طفيفة وابتسامة محتشمة.
أشرفت عملية التسجيل عن النهاية و أجبت عن الأسئلة التي مافتئت الأم سعاد من حين لحين تطرحها حول نظام المدرسة والدعم الذي يمكن تقديمه للأطفال الأجانب لتحسين لغتهم وكدا الأنشطة المخصصة للآباء. لقد كانت تبدي اهتماما كبيرا لما أقوله, على عكس زوجها الذي اكتفى باقل قدر من الكلام, و كأنها تريد أن تطمئن أكثر عن المكان الذي ستضع فيه طفلتها الصغيرة.
بعد مرافقتهما الى باب المدرسة لتوديعهما باغتتني الأم سعاد بالسؤال التالي:
" هل أنت مغربي الأصل؟"
واعتلت وجهها هذه المرة ابتسامة عريضة تنم عن الارتياح, بعدما تأكدت من ظنها. ثم تابعت قائلة:
" الحمد لله".
علمت فيما بعد أن الأم أيضا من أصل مغربي.
أظهرت سعاد بالفعل – كما ذكرت في لقائنا الأول- بأنها واحدة من الأمهات اللواتي يحرصن كل الحرص على تتبع مسار أبنائهن المدرسي. فكانت تحضر غالبا في اللقاءات الاعلامية التي تنظمها المدرسة وتسعى الى التقرب أكثر من معلمة طفلتها مريم حتى تتعرف على كل صغيرة و كبيرة تفيدها في دعم طفلتها.
واستمرت الأم سعاد على تواضبها و مشاركتها المستمرة في الأنشطة التي تنظم للآباء. و بفضل حضورها و اهتمامها بالمدرسة, كونت العديد من العلاقات و اللاتصالات مع الأمهات من مختلف الثقافات.
غير أن هذا الوضع لم يدم طويلا.
بعد حوالي سنتين من تواجدها في المدرسة, بدأت الأم سعاد تغيب بين الفينة و الأخرى. وفي الأشهر الأخيرة اختفت بالمرة. حيث لم تعد ترافق ابنتها مريم كل صباح الى القسم كما كانت تفعل دائما. وتولى الأب هذا الدور في غيابها. وكلما سئل عن سبب غياب زوجته, يعطي إجابة غامضة ويحاول تجنب الحديث في الموضوع.
غير أن أهمية الاحتفال بعيد ميلاد مريم مع زملائها وزميلاتها في المدرسة أرغم الأم على مرافقة طفلتها لتستمتع هي الأخرى بهذه اليوم المتميز. حيث تخصص المعلمة حيزا خاصا لهذا الحدث الهام و يقوم التلاميذ بترديد الأغنية الخاصة بعيد الميلاد احتفالا بمريم. هذه الأخيرة التي ارتدت بذلة جميلة تناسب رونق المناسبة وزادها لون شعرها الأسود الداكن جمالا وبهاء.
حاولت الأم سعاد إبراز فرحتها و غبطتها وهي تتلقى سيلا من الأسئلة من طرف الآباء والأمهات حول غيابها. لكن ملامح وجهها توحي بأنها تخفي شيئا ثقيلا بداخلها. هذا ما أحست به معلمة مريم أيضا. فانتظرت خروج جميع الآباء والأمهات ثم استدرجت الأم سعاد الى خارج القسم لتستسفرها عن هذا الغياب الطويل. وهي الأم التي كانت ترافق مريم كل صباح الى القسم و تساعد المعلمة و المدرسة كلما طلب منها ذلك.
كانت أم مريم تتوقع هذه المواجهة التي لا مناص منها. فلم تنتظر طويلا لتفصح عن ما بداخلها وهي تشهق بكاء.
" إنه المرض الخبيث بدأ ينخر جسدي"
ضمتها المعلمة لصدرها و هي تحاول مواساتها.
" لا أريد أن اموت و طفلتي في أمس الحاجة لي" أضافت أم مريم و دموعها تنسكب مرة أخرى.
لم يعد جسدها يتحمل العلاجات الكيميائية القاسية. أنهكت و هزلت و قلت شهيتها للأكل مما جعلها تظل أغلب الأحيان ممتدة في فراشها.
ومع ذلك فايمانها القوي بالله جعلها لا تفقد الأمل في الشفاء. واغتنمت فرصة حضورها لتوصي المعلمة من جديد بالاعتناء بمريم.
غابت الأم سعاد من جديد عن الأعين لبضعة أشهر. و فجأة ظهرت من جديد رفقة طفلتها. لقد أنهت علاجها بنجاح و تبين بأن جسمها أصبح الآن خاليا من السرطان. وهكذا شرعت أم مريم رويدا رويدا في استرجاع حيويتها ونشاطها المعتاد.
وبدأت تحضر باستمرار في اللقاءات التي تعد للآباء وكأن شيئا لم يقع. وفي نفس الوقت كانت تخضع للفحوصات الطبية الروتينية.
استمر الحال على هذا الوضع لسنة ونصف تقريبا. ثم غابت لمدة بعدما ظهر المرض الخبيث من جديد في جسمها. كانت مريم أنذاك في نهاية سنتها الدراسية التالثة. طفلة لطيفة بدأت تشق طريقها بشكل واضح. محبوبة من طرف الجميع.
واستأنفت الأم المسكينة علاجها الكيميائي من جديد. وفي الأسبوع الأخير قبل نهاية السنة الدراسية, حضرت رفقة زوجها لتتعرف على نتائج طفلتها التي انتقلت الى القسم الرابع. كانت علامات المرض بادية عليها.
وقبل أن تغادر المؤسسة مرت على مكتبي وبادرتني بمد يدها للسلام. وضغطت هنيهة على يدي وهي توصيني بالدارجة المغربية هذه المرة:
"أرجوك, تهالا في مريم".
لقد كان فعلا لقاء الوداع. غادرت المدرسة و أنا أفكر في وصيتها. لم أستطع أن أنسى تلك اللحظة الى حد الآن.
عند عودتنا الى المدرسة علمنا بأنها قضت عطلة الصيف طريحة الفراش في إحدى المصحات بعدما تضاعفت حالتها الصحية. ثم جاءنا خبر وفاتها بعد بضعة اسابيع من بداية السنة الدراسية. تألمنا لفراقها كمؤسسة, كآباء و كتلاميذ بحكم علاقتها الطيبة مع الجميع. و تألمت أنا كثيرا و أنا أتذكر مصافحتها الوحيدة لي.
ظلت مريم بيننا تتنقل من صف الى آخر. وكانت تحضى برعاية من طرف الجميع بالمؤسسة. وحرص والدها أيضا على تتبعها ومساندتها كما كانت تفعل أمها. وكانت تلقى عناية إضافية من بعض الأمهات.
حيث يدعونها الى المنزل للعب وتناول الطعام مع أطفالهم.
واستمر الحال على هذا الوضع لتتكرر المأساة في سنتها الأخيرة من التعليم الآبتدائي. حيث أصيبت هي الأخرة بالمرض الملعون. و شرعت المسكينة في الفحوصات و العلاج الكيميائي كما كان الحال مع أمها. مما جعلها تتغيب كثيرا عن المدرسة.
و استفحلت حالتها الصحية بشكل كبير مع مرور الوقـت. لتستسلم في نهاية الأمر.
ورغم الوقع الكبير لهذه المأساة, أحس الأب بالدعم الذي تلقاه من طرف المعلمين والآباء و كدا قدماء التلاميذ. لقد أظهر الجميع وقوفه التلقائي بجانب هذا الأب الذي أصبح فجأة وحيدأ.
مصطفى الخداري، نائب مدير مدرسة بأمستردام (متقاعد)