تاريخيا، لا شيء يثبت أن التباين بين المغرب والجزائر مسألة مؤقتة أو اصطناعية، رغم التشابهات العديدة. ذلك أن الاختلافات غير محدودة على مستوى الإنتاج الثقافي العام، وأساليبه وتطوراته. وهذا ما لم يستطع النظام العسكري الجزائري التغاضي عنه، ذلك أنه لا يفوت أي فرصة لاستغلال قوة التشابهات للاستيلاء على تاريخ المغرب بدافع شعور هائل بالنقص، وذلك بافتراض مركزية جزائرية وهمية. وقد ازدادت هذه المركزية سوءا حين أخذت على عاتقها الإتيان على الأخضر واليابس من تاريخ المغرب وحضارته، وتفسير الماضي من زاوية التفاعل الحضاري، بل من باب الانقضاض المتوحش على ما أنتجه الآخرون حد حصر تاريخهم في الاستخدام الداخلي الذي يقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا.
لا يتعلق الأمر هنا بالنسبة للسلطات الجزائرية بموقف من التاريخ الكوني، تبنيا أو إنكارا، بل بالاستحواذ الكامل والسرقة الموصوفة خارج أي انتباه إلى التأريخ والتوثيق واللقى والحفريات، وخارج منطق الإنتاج الحضاري الوطني. فهي لا تتورع عن تبني التجربة التاريخية للآخرين «وليكن الآخرون هم المغاربة أو «المروك» كما تطلق علينا أبواقهم». إن المركزية الجزائرية الوهمية لدى لصوص التاريخ هي الثابت، بينما المتحول هو الجوار الذي لا يقاس عليه مادامت آلية الاستيلاء على الزمان تسير جنبا إلى جنب مع محاولات قضم المكان وإلحاقه ببلاد الكراغلة. والحال أن الجزائر، وهذه عقدة وجودية مركبة، ذات تاريخ اصطناعي أنتجه المستعمر منذ قرون، بما فيه التاريخ الذي ساهمت فرنسا في إنشائه بعد احتلالها لأكثر من 130 سنة، خلفا للإمبراطورية العثمانية، فضلا عن الإمبراطوريات الأخرى السابقة التي أحكمت سيطرتها على «نوميديا» «الاسم القديم للجزائر»، كالنوميديين والفينيقيين والبونيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين والأمويين والعباسيين والأدارسة والأغالبة والرستميين والفاطميين والزيريين والحماديين والمرابطين والموحدين والحفصيين.
إن هذا الحرج التاريخي لدولة طارئة على التاريخ هو ما جعل العسكر الجزائري يبحث عن سردية تاريخية خاصة بوصفها جزءا من النظام المادي لدولة تريد أن تتسع في كل الجهات «نحو المغرب ومالي وليبيا وتونس وموريتانيا»، حتى لو اضطر إلى تزوير حقائق التاريخ أو تشويهها، بل توجيه انتباه الشعب الجزائري إلى أن حضارته تتعرض للنهب، وأن عليهم أن يدافعوا عن تاريخهم بالمجارف والفؤوس، وليس بالاحتكام إلى التاريخ والبحث العلمي والمنطق العقلي. والغريب أن بعض المثقفين والإعلاميين والجامعيين الجزائريين المأجورين خرجوا من أركانهم ليردوا ما أسموه «حملة استيلاء المغاربة على تراثهم»، حتى دون أن يقدموا أي أدلة تثبت ادعاءاتهم، لأن هذا الادعاء يحتاج إلى براهين دحض ودراسات علمية، وليس إلى التظلم الباكي والصراخ العاتي.
لا يتردد الجزائريون في إلحاق كل الانجازات التاريخية التي حققها المغاربة بدولتهم الطارئة، بل إن الإنتاج الثقافي المغربي برمته في المجال الموسيقي والطبخ والأزياء والرياضة والفن ليس إلا إنتاجا جزائرية «وقع تشويهه خدمة لأجندة مشبوهة». الجزائر هي التي أنجبت طارق بن زياد الذي أثبت المؤرخ الإسباني رفاييل ديل مورينا أنه أمازيغي ولد في 15 نونبر 679 في جبال الريف في المغرب الأقصى! كما هي أول بلد اعترف باستقلال أمريكا «حسب ما قاله الرئيس عبد المجيد تبون»، علما أن أن المؤرخ الأمريكي روبير أليسون يؤكد إن السلطان الرّاحل سيدي محمد بن عبد لله كان أول ملك اعترف باستقلال الولايات المتّحدة. بل إن ابن بطوطة أصبح بقدرة قادر جزائريا وبطلا لفيلم جزائري من إخراج طارق صفية، علما أن كل المصادر التاريخية تؤكد أنه "رحّالة عربيّ مسلم ولد عام 703 هجرية الموافق 1304م في مدينة طنجة"!
لم يقتصر التشويه والسرقة الجزائرية على اختراع التاريخ الخاص عن طريق النهب والتزوير، ولا على سرقة الأعلام والنوابغ، بل شمل ذلك التراث اللامادي على أوسع نطاق، إذ امتد ذلك إلى الأزياء المغربية مثل القفطان والجلباب والطربوش.. إلخ؛ والمطبخ مثل الكسكس والبسطيلة والملاوي وأنواع كثيرة من الأطعمة المحلية بجبال الأطلس والريف، وفي عمق الصحراء، ناهيك عن المطبخ الفاسي والمراكشي الضارب في جذور التاريخ؛ والصناعة التقليدية، مثل الزليج والحلي التقليدية والفخاريات؛ والموسيقى مثل الملحون وموسيقى كناوة والغيوان ولمشاهب والسهام... إلى درجة أن سياحا أجانب كثيرا ما عبروا عن اندهاشهم لما تقديمه في الإعلام الجزائري على أنه منتوج محلي والحال أنه مغربي مائة في المائة بحكم أنهم زاروا المغرب وعاشوا فيه ويعرفون ثقافته وتراثه.
غير أن المضحك المبكي هو اللجوء إلى ادعاء أن مسجد الكتبية الرابض، منذ قرون، بأرض مراكش أصبح جزءا لا يتجزأ من تراثها الإنساني للجزائر، كما أذيع في حفل أسبوع التراث الجزائري على قنوات التلفاز والراديو الجزائريين. ولهذا ليس ببعيد كما يعلق أحد الظرفاء أن يصبح جبل توبقال جزائريا وأن المغاربة استعملوا سحرهم لنقله من الجزائر، كما يمكن لصومعة حسان أن تكون من وهران، والأوداية من قسنطينة، وأسوار مكناس من بجابة، وقصر الباهية من البليدة، ووليلي من غرداية... والقائمة طويلة!
يظهر إذن، بما لا يدع أي مجال للشك، أن سرقة التاريخ "عمل عسكري جزائري" منظم تم التخطيط له على مستوى الدولة الجزائرية في إطار ما يسميه الأنثروبولوجي البريطاني جاك جودي «الحب المسروق»، وهو الحب المبني على الغياب والمسافة، وهذا ما يحاول الكراغلة تغطيته بالإمعان في «العداء» لكل ما هو مغربي، الأمر الذي أدى إلى تسخير بعض مؤرخي الجزائر، والدفع بهم إلى محاولة إعادة كتابة تاريخ المنطقة لتصنع من الدولة الجزائرية «قوة وإمبراطورية عظمى راسخة الحضور في التاريخ»، والحال أن الجنرال ليوطي يشهد حسب ما نقل عنه العروي بالحقيقة التالية: "فيما واجهنا في الجزائر حتات شعب وحالة لا تجانس، وجدنا بالعكس من ذلك في المغرب أمة ودولة"!
وتبعا لذلك، يحق للمغاربة أن يقولوا للسلطات الجزائرية: "ارحمونا من هذا الحب!". كما يحق لهم أن يعلموا إخوانهم الجزائريين أن التماثل والتوازي ليس مشكلا، وأن كل المشاكل في رأس الجنرال اللص شنقريحة والكابورال تبون.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"
