Sunday 10 August 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: البرلمان … التفويض شعبي.. والمراقبة رقمية

 
 
عبد الرفيع حمضي: البرلمان … التفويض شعبي.. والمراقبة رقمية عبد الرفيع حمضي
في خطاب العرش لهذه السنة، خصّ جلالة الملك الحقل الانتخابي بتوجيه واضح ، حين دعا وزير الداخلية إلى الشروع في التحضير للاستحقاقات التشريعية المقبلة، وإجراء مشاورات مع الأحزاب السياسية. وهذه التوجيهات تندرج طبعا في إطار التأطير الملكي المعتاد للمحطات الوطنية الكبرى، إلا أنها ، في السياق الحالي، تكتسي دلالة سياسية خاصة.
فنحن على أبواب مرحلة انتخابية جديدة، وفي ظرفية وطنية تتقاطع فيها معادلة دقيقة قوامها : فعالية التمثيلية، ومصداقية النخب، ووزن المؤسسات في البناء الديمقراطي.
فانطلاق جلسات التشاور مهم لكن الأهم منه ،هو أن يتجاوز النقاش حدود التقنيات الانتخابية، إلى مساءلة أكثر عمقًا ،حول وظيفة السياسة، ودور المنتخب، وموقع النخب في ضمان الاستقرار، وصيانة الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.
فالمغرب ليس بلدًا جديد العهد بالمؤسسات أو بالتجربة الانتخابية، بل راكم، منذ الاستقلال، تجربة دستورية غنية، توجت بخمسة دساتير وأكثر من عشر محطات انتخابية تشريعية. وقد اختارت بلادنا مبكرًا-في محيط إقليمي اتسم بسيادة الحزب الوحيد أو أنظمة الانقلابات - طريق التعددية السياسية والتداول، رغم كل ما عرفته تلك التجربة من مدّ محدود وجزر جارف . ولهذا، فإن الأسئلة المطروحة اليوم حول التمثيلية السياسية لا تصدر عن فراغ، بل عن سياق يحمل تراكمًا ومسؤولية تاريخية. فكلما تقدّمت التجربة، ارتفعت مشروعية المطالب بإصلاحها وتعزيزها، لا الاكتفاء بتجميلها تقنيًا وبس .
ففي الفكر السياسي الحديث، لا يمكن اختزال السياسة في “تقنيات التدبير العمومي” أو “إدارة الشأن المحلي”. فكما درسنا في كلية الحقوق أن جون لوك يعتبر "وجود السلطة السياسية هو الضمان لعدم الانزلاق نحو حالة الطبيعة، أي نحو الفوضى. " وفي أدبيات التنمية الحديثة، تؤكد تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة أن “الحكامة السياسية الرشيدة” شرط أساسي لأي نمو اقتصادي مستدام، لأن الثقة السياسية هي الأرضية التي تُبنى عليها الثقة في الاستثمار، في القضاء، وفي المستقبل.
وبالتالي، فالتمثيلية السياسية، في جوهرها، ليست مجرد فوز في صناديق الاقتراع، بل هي تفويض مشروط بالثقة، ومتجدد بالأداء كأساس للديمقراطية التمثيلية القائمة على قاعدة التنافس بين نخب منتخبة لتُمارس السلطة باسم الشعب وتحت رقابته. لكن الجديد الان ان هذه الرقابة، التي كانت بالأمس محصورة في موعد انتخابي وعند نهاية كل ولاية ،فقد أصبحت اليوم رقابة آنية ومباشرة، يمارسها المواطن عبر هاتفه وشبكاته الاجتماعية، وهو ما يجعل من التمثيلية السياسية حالة يقظة مستمرة،
وبالتالي لم يعد في التجربة المقبلة مكان للاستهتار .فلا يعقل ان تمر قوانين اساسية ومهيكلة في جلسة عامة ولا يصوت عليها سوى 20 نائبا او اقل من أصل 395، بعد الخصم طبعا من هم موضوع متابعات قضائية وفي حالة اعتقال وان كان متابعتهم بتدبيرهم على المستوى المحلي أو الجهوي، او الشخصي لكن انعكاسها الأكبر يصيب صورة البرلمان في العمق، ويضع شرعية المؤسسة ككل تحت المجهر.مع العلم ان من كان فاسدا محليا لن يكون قديسا وطنيا .والخوف كل الخوف ان ننتقل من انحراف أفراد إلى انحراف مؤسسة إذا تحكموا في دواليبها .
وكل هذا أصبح مادة يومية متداولة في الفضاء الرقمي، تُصنع منها صورة جماعية للسياسيين، تؤثر على مستوى الثقة في المؤسسات، وعلى المشاركة في العملية السياسية برمّتها. وقد كتب خوسيه أورتيغا إي غاسيت أن “البرلمانات القوية تصنعها أعين المراقبين لا أيادي المشرعين”
فمن غير المجدي تعديل قوانين الانتخابات في كل استحقاق، دون مساءلة حقيقية لأداء الأحزاب، ومستوى النخب، وآليات صناعة القرار داخل المؤسسات. فمراجعة المنظومة القانونية تظل سطحية إذا لم تقترن بمراجعة جوهرية للوظيفة السياسية، ولمفهوم المسؤولية أمام المواطن والدولة والتاريخ. فما الفائدة من تغيير حتى نمط الاقتراع ،إذا ظل المترشح هو نفسه، بنفس الخطاب، ونفس الغياب، ونفس الانفصال عن هموم الناس؟
الحوار الذي انطلق بين الادارة الترابية والأحزاب يجب ألا يُختزل في حزئيات الدوائر واللوائح، بل ينبغي أن يكون فرصة حقيقية لمراجعة شُجاعة للمشهد السياسي، يعاد فيها الاعتبار للثقة، وللجدية، ولمعنى العمل السياسي نفسه. فالسياسة ليست وسيلة لتدبير المرحلة فقط ، بل هي أداة لخلق المستقبل ايضا .وليس هناك ما هو اخطر في اي مجتمع من غياب السياسة أو إفراغها من مضمونها.
وعليه فان مسؤولية النخب السياسية المغربية اليوم مضاعفة لكونها نابعة من تاريخ عريق، ولأنها تعيش تحت مجهر دائم، ولأن مستقبل الثقة في المؤسسات بات مرهونًا بقدرتها على تجديد نفسها، وإعادة المعنى للعمل السياسي.
فلا مجال لرفاهية تكرار تجارب غير موفقة في بلد له ذاكرة سياسية طويلة، ودستور حديث، وانتظارات عالية.مما يؤكد ان الأولوية ليست للمراجعة القانونية بل للاعتراف بأن السياسة هي أصل البناء،وليست هامشه فدروس التاريخ في العالم تشهد بان أزمة السياسة لا تُعالج لا بالنصوص ولا بالمال ،وان كل منجز اقتصادي غير مؤطر سياسيا هو مكتسب مرحلي فقط .