الخميس 2 مايو 2024
كتاب الرأي

الإدريسي: تأثير المعيار المالي في مشروع قانون المسطرة المدنية على الأمن المهني للمحاماة وعلى الأمن القضائي

الإدريسي: تأثير المعيار المالي  في مشروع قانون المسطرة المدنية على الأمن المهني للمحاماة وعلى الأمن القضائي خالد الإدريسي عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط

تشكل القوانين الإجرائية أحد أهم الاليات التشريعية التي تنزل بشكل فعلي المقتضيات الموضوعية القانونية بحقوقها والتزاماتها، وتجعل هذه الأخيرة في حالة حركة عن طريق التنزيل القضائي لهذه المساطر من خلال النوازل التي تعرض امام القضاء ويبت فيها بأحكام وقرارات حائزة لقوة الشيء المقضي به. وإذا كانت قانون الإجراءات المدنية بصفة عامة يستند على عدة معايير في تكوين نسيجه التشريعي ومنظومته القانونية منها ما ينطلق من المنظور الدستوري والحقوقي ومنها ما ينطلق من المنظور الواقعي والتقني، فإن الهدف الأساسي من وراء كل تشريع مسطري يبقى في نهاية المطاف هو تحقيق الحكامة والنجاعة الإجرائية من اجل تحقيق أهداف المحاكمة العادلة بشكل ناجع وسريع وأكثر فعالية.

 

وقد ارتأيت بخصوص هذا الموضوع ان أتناول مشروع القانون المسطري انطلاقا من معيار مهم وجوهري وله تأثير مباشر وغير مباشر على باقي المعايير الأخرى الحقوقية والدستورية والتقنية والواقعية، وهو المعيار المتعلق بالجانب المالي داخل المنظومة المسطرية الذي يعتبر حاسما في تقييم مدى جودة النظام القانوني ومدى انسجامه مع معايير الامن القانوني والأمن المهني وايضاً مدى احترامه للمبادئ الأساسية التي يستند عليها التشريع المسطري. ويثير هذا المعيار المالي عدة إشكاليات مرتبطة بشكل أساسي بعدة مبادئ مسطرية كالولوج الى العدالة والمساواة بين المتقاضين ومجانية التقاضي وأداء الرسوم القضائية والمساعدة القضائية والتقاضي على درجتين والأمن القضائي ومبدأ الحق في الدفاع وتوسيع مجال عمل الدفاع ووظيفة محكمة النقض كمحكمة قانون، وما الى ذلك من مبادئ تتأثر بشكل كبير بالمعيار المالي الذي يفرضه المشرع داخل القانون المسطري.

 

وهكذا سنعمل على تحليل مدى التأثير الذي يمكن ان يخلقه المعيار المالي على مستوى بعد المبادئ المسطرية المذكورة أعلاه، ولا سيما مبدأي الأمن المهني والامن القانوني والقضائي والحق في الدفاع وما يرتبط معهما من مبادئ وضمانات مسطرية واجبة الاحترام. ولكن قبل ذلك وجب التذكير بالتعديلات ذات الطبيعة المالية الواردة على المشروع من أجل التعرف على طبيعة المعيار المالي داخل المشروع، وسأقتصر على ثلاث مواد فقط من المقتضيات ذات الطبيعة المالية وتحليلها على ضوء المقاربات التي تم التذكير بها أعلاه.

وهكذا سنتطرق الى ما يلي:

أولا: التعديلات ذات الطبيعة المالية الواردة في مشروع قانون المسطرة المدنية

ثانيا: تأثير المعيار المالي في مشروع قانون المسطرة المدنية على الامن المهني للمحاماة

ثالثا: تأثير المعيار المالي في مشروع قانون المسطرة المدنية على الامن القانوني والقضائي

 

أولا : التعديلات ذات الطبيعة المالية الواردة في مشروع قانون المسطرة المدنية

جاء مشروع قانون المسطرة المدنية بالعديد من المقتضيات ذات الطبيعة المالية والتي عملت من خلالها على خلخلة العديد من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التشريع المسطري ، ومن الأمثلة على ذلك نجد المادة 30 من المشروع تنص على مايلي : " مع مراعاة المقتضيات الخاصة . تختص المحاكم الابتدائية بالنظر :

- ابتدائيا وانتهائيا إلى غاية 40.000,00 درهم .

- ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف في جميع الطلبات التي تتجاوز أربعين الف درهم ".

بينما تنص المادة 19 من قانون المسطرة المدنية الحالي على ما يلي : " تختص المحاكم الابتدائية بالنظر :

- ابتدائيا ، مع حفظ حق الاستئناف اما غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية، إلى غاية عشرين الف درهم ( 20.000 درهم ) .

- وابتدائيا ، مع حفظ حق الاستئناف امام المحاكم الاستئنافية، في جميع الطلبات التي تتجاوز عشرين الف درهم ( 20.000 درهم ) " .

 

يتبين اذن على ان هذه المادة وضعت معيارا ماليا صارما بخصوص القضايا التي لا تقبل الطعن بالاستئناف والمتجسدة في القضايا التي لا تتجاوز مبلغ 40.000,00 درهم ، وعدلت من خلاله النص الحالي الذي كان يحصر المعيار القيمي من اجل عدم إمكانية الطعن بالاستئناف في مبلغ 20.000,00 درهم . ورغم أن هناك تبريرات لها جانب من المنطق يقدمها واضعوا المشروع من خلال تأكيدهم على أن الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت وتطورت بعد عقود من صدور النص الجاري به آلعمل حاليا ، وايضاً بان مبدأ النجاعة والحسم في الملفات البسيطة قيميا لا يتطلب المرور عبر جميع مراحل التقاضي ولا التمتع بضمانة التقاضي على درجتين ، إلا ان هذا المبرر يبقى غير كاف للقول بضرورة الرفع من المبلغ الذي يحدد القيمة المالية للقضايا التي يتم البت فيها ابتدائيا واستئنافيا لاسيما إذا علمنا على أن عدد القضايا الرائجة داخل محاكم المملكة والتي لا تتجاوز 40.000,00 درهم تقارب حوالي نصف القضايا الرائجة وبالتالي فإن هذا المعطى سيؤثر بشكل كبير على الكثير من المبادئ والمسلمات التي تشكل ثوابت النظام التشريعي الاجرائي المغربي في المجال   المدني .

وبالإضافة الى المادة 30 من المشروع ، هناك أيضا المادة 375 من نفس المشروع التي تحدد اختصاصات محكمة النقض ، حيث تؤكد هذه المادة على ما يلي : " تختص محكمة النقض ، ما لم ينص قانون على خلاف ذلك ، بالبت في :

  • الطعن بالنقض ضد المقررات الانتهائية الصادرة عن جميع محاكم المملكة ، باستثناء القرارات الاستئنافية الصادرة في مادة فحص شرعية القرارات الإدارية ، والاحكام الصادرة في الطلبات التي لا تتجاوز قيمتها مائة الف درهم ( 100.000 درهم ) ، وفي الطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عنه ، وبمراجعة الوجيبة الكرائية .
  • ….
  • ….  " .

 

بينما ينص الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية الحالي تبت محكمة النقض ما لم يصدر نص صريح بخلاف ذلك في :

1- الطعن بالنقض ضد الأحكام الانتهائية الصادرة عن جميع محاكم المملكة باستثناء: الطلبات التي تقل قيمتها عن عشرين ألف (20.000) درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عنه أو مراجعة السومة الكرائية؛

2- …. "

 

وهكذا يتبين على ان المادة 375 من مشروع قانون المسطرة المدنية عدلت الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية الجاري به آلعمل تعديلا جوهريا على المستوى القيمي من خلال الرفع من السقف المالي المتعلق بالقضايا القابلة للطعن بالنقض من مبلغ 20.000,00 درهم إلى مبلغ 100.000,00 درهم ، وهذا التعديل يدل دلالة واضحة ان واضعي نصوص مشروع قانون المسطرة المدنية يركزون على الرفع من مستوى الاختصاص القيمي للقضايا القابلة للطعن بالنقض لضرورات تتعلق كما قلنا أعلاه بتطور الجانب الاقتصادي والمعيشي للمجتمع المغربي وأيضا من اجل تحقيق النجاعة القضائية عن طريق الحسم في مجموعة من المنازعات التي تبدو بسيطة من ناحية القيمة المالية والتي كانت وفق القانون الحالي يمكن ان تمرعبر جميع مراحل التقاضي بكل ما يشكله ذلك من عبئ على المنظومة القضائية التي تبقى محدودة مؤسساتيا وبشريا في البت في الاف القضايا التي يمكن حاليا من خلال اعتماد هذا المعيار المالي ان يمكن من الحسم في هذه القضايا دون ان تبقى محكمة النقض منشغلة بهذه الملفات ذات القيمة المالية القليلة .

 

لكن في حقيقة الأمر فإن كل هذه المبررات تبقى كلها مفتقدة للمشروعية القانونية والحقوقية والدستورية والإجرائية، لأن كل هذه التعديلات تمس بشكل مباشر وغير مباشر بمجموعة من الثوابت والمبادئ القانونية ذات الطبيعة المسطرية التي لا ينبغي المساس بها لتعلقها بالنظام العام وايضاً بالضمانات الأساسية والجوهرية التي يجب ان يتمتع بها جميع المواطنين والمتقاضين بنوع من الحياد والمساواة. وهو ما يجعلنا نؤكد على ان هذه التعديلات التي وردت في مشروع قانون المسطرة المدنية تحمل فلسفة ليبيرالية غير منصفة وتقيم نوعا من التمييز بين المواطنين على أساس مالي وتحرم المواطنين الفقراءوذوي الدخل المحدود من ضمانة التقاضي ومن مبدأ الولوج إلى القضاء الذي يعتبر من أهم الأسس التي تستند عليها الديموقراطية ودولة الحق والقانون.

 

وهذه الحقيقة سنكتشفها من خلال اختبار هذه المستجدات المسطرية وتحديد مختلف التأثيرات التي يمكن ان تحدثها على ضمانات الحق في الدفاع والأمن المهني وأيضا على ضمانات الامن القضائي من خلال دور ووظيفة محكمة النقض .

 

ثانيا: تأثير المعيار المالي في مشروع قانون المسطرة المدنية على الامن المهني للمحاماة

إن التأمل في مقتضيات المادة 30 من مشروع قانون المسطرة المدنية التي تنص على أنه يتم البت ابتدائيا وانتهائيا الى غاية 40.000,00 درهم، ومقارنتها بالمادة 96 من المشروع التي تمكن الأطراف في الدعاوى من القيام بمساطرهم ودعاواهم مباشرة امام القضاء من دون ان يكونوا ملزمين بالاستعانة بمحام للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم في الملفات التي يتم البت فيها ابتدائيا وانتهائيا وبأعمال المسطرة الشفوية . وهذه المستجدات التشريعية ذات الطبيعة المالية الواردة في مشروع قانون المسطرة المدنية وان كانت لها مبرراتها وأسانيدها التي تبرر بها من طرف واضعي المشروع ، فإنه مع ذلك فإن الضرر الذي يبترتب عنها أكثر من النفع الذي يمكن ينتج عنها سواء في ما يتعلق بضمان العدالة بجميع مبادئها وأسسها أو فيما يتعلق بالمحاماة التي تعتبر فاعلا رئيسيا داخل منظومة العدالة ولا يمكن باي حال من الأحوال أن يتم الانتقاص من دورها ودور المنتسبين اليها الذين يقدمون خدمات جليلة ليس لمرفق العدالة فحسب ولكن أيضا للأفراد والجماعات عن طريق وضع خبرتهم القانونية وتمرسهم المسطري في خدمة الحفاظ  حقوقهم ومصالحهم . ولذلك إذا بقي هذا المقتضى على حاله فإنه ستترتب عليه مجموعة من الآثار التي ستؤثر سلبيا على الامن المهني للمحاماة ، لعل من أهمها :

 

- ممارسة التقاضي بشكل شخصي سيؤدي الى ضياع الحقوق :

ان تمكين المتقاضين من التقاضي بشكل شخصي لن يخدم الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، ذلك أنهم سواء قاموا بالمساطر التي لا تتجاوز قيمتها المالية 40.000,00 درهم بأنفسهم أو بواسطة اشخاص ليست لهم صفة محامين مما سيعرضهم لضياع حقوقهم نتيجة عدم درايتهم وضبطهم المساطر القانونية وعدم امتملاكهم الخبرة اللازمة لتقديم الطلبات والدفوعات وما تستوجبه المسطرة من إجراءات تتطلب الكثير من الدراسة القانونية والممارسة الميدانية من أجل الحصول على الحقوق والإجبار على تنفيذ الالتزامات. ذلك أنه لا يكفي أن ان يكون الحق ثابتا والمصلحة واضحة ولكن الأهم من كل ذلك هو ضبط المسطرة التي يستطيع من خلالها المتقاضي تثبيت حقه والحفاظ على مصلحته. فقد يقدم المتقاضي دعواه من دون ان يمهد لها بإجراءات مسطرية تمهيدية تكون إلزامية لصحة المسطرة مما يجعل طلبه غير مقبول شكلا، وقد لا يكون مؤهلا لاثارة دفوعات شكلية او موضوعية مما يترتب عنها عدم قبول الطلب او رفضه، فقط لانه يجهل القانون المسطري وخصوصياته التي تنظم الدعوى تحدد شكلياتها . وهنا يمكن القول ان الضرر الذي سيترتب نتيجة هذا المستجد القانوني المسطري ذي الطبيعة المالية سيكون أكثر من نفعه وسيؤدي إلى ضياع حقوق ومصالح الأفراد الذي قد يجازفون بالقيام بمساطرهم التي لا تتجاوز المبلغ المحدد في المادة 30 من المشروع من دون أن يستعينوا بمحامين خبراء في المساطر أقدر على حماية حقوقهم ومصالحهم ، لا سيما أنه إذا تعذر على المتقاضين تكليف محام لاسباب مادية ناتجة عن عدم القدرة على أداء الاتعاب للمحامين ، فإن هناك نظام خاصا للمساعدة القضائية ايمكن أن يعتمد من أجل تغطية هذا الإشكال ويكون بالتالي جميع المتقاضين قادرين على الاعتماد على دفاع مؤهل من أجل القيام بالمساطر سواء كانت وضعيتهم المالية تسمح او لا تسمح بذلك .

 

-  ممارسة التقاضي بشكل شخصي سيؤدي إلى إثقال كاهل القضاء وتعقيد مهمته

يعتبر السماح للمتقاضين بممارسة المساطر القضائية بشكل شخصي عاملا سلبيا سيؤدي من دون شك إلى اثقال كاهل القضاء بمساطر تفتقد الى الشروط الشكلية والموضوعية مما يعقد مهمته في البت في النوازل نتيجة عدم وضوح الدفوعات او نقصان الوقائع مما سيؤدي إلى ان يبذل القضاء الذي يبت في النازلة جهدا مضاعفا من أجل فهم كنه الملف والبت في مضمونه كما ان هذا المعطى قد يؤدي إلى مضاعفة الاحكام بعدم القبول. وعلى العكس من ذلك فإن المساطر التي يمارسها المحامين تقدم في حلة صحيحة من الناحية الشكلية وعلى أساس سلبم من الناحية الموضوعية بشكل يسهل على القضاء فهم الملف والبت في موضوعه بشكل يتوافق مع معطيات الملف وأيضا ما يفرضه الحق وتستوجبه العدالة. فكما هو معلوم في المبادئ العامة ان المحامين يقومون بالخلق والإبداع من خلال مرافعاتهم الكتابية والشفوية والقضاء يقوم فقط بالترجيح فيما يدلي به المحامين من دفوعات وأوجه دفاع مما يسهل مهمته ويبسط مأمورية البت في الملف وفق ما يقتضيه القانون والعدالة. وبالتالي فمنح المتقاضين هذا الحق سيصعب على القضاء أداء مهامهم المتمثلة في البت في النوازل لانهم لن يجدوا ما يقومون من خلاله بالترجيح مما سيضاعف جهودهم ويجعل العدالة صعبة التحقق لا سيما ان القضاء محكوم بمبادئ مسطرية تقيده ولا تمكنه من تصحيح الأخطاء والإخلالات التي ترد في مقالات ومذكرات الأطراف الذين يمارسون المساطر دون الاستعانة بمحامين ، كعدم إمكانية إعادة تكييف الطلب بناء على الوقائع الحقيقية وأيضا عدم الحكم بأكثر مما طلب ، وهكذا سيكون المتضرر الأول والأخير هو العدالة وحقوق هؤلاء المتقاضين الذي سيتقاضون بشكل شخصي ، لأن الكعكة المقدمة لهم في هذا المشروع ستكون مسمومة وستؤدي إلى القضاء على مصالحهم .

 

- ممارسة التقاضي بشكل شخصي سيؤدي الى التقليص من مجال عمل المحامين :

إن رفع مبلغ البت في القضايا ابتدائيا وانتهائيا إلى حدود 40.000,00 درهم وإعفاء المتقاضين من إلزامية الاستعانة بمحامين سيجعلهم يفقدون حوالي 50 بالمائة من عدد القضايا التي كانت تروج لدى محاكم المملكة ، ذلك أن عدد القضايا التي لا تتجاوز هذا المبلغ تبقى جد كبيرة وهو ما سيحرم المحامين البسطاء والمحامين المبتدئين الذين يعتمودون على كسب قوت يومهم من خلال النيابة في هذا النوع من الملفات في أزمة حقيقية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لان الموكلين والمتقاضين لم يعودوا ملتزمين باللجوء اليهم واصبح بأمكانهم اللجوء إلى شخصيا ومباشرة للتقاضي او الاعتماد على اشخاص او مؤسسات أخرى تقوم بهذا الدور مقابل أجور زهيدة . كما ان هذا التوجه يناقض المطالب الدائمة للمحامين أفرادا ومؤسسات بتوسيع مجال عملهم وترسيخ احتكارهم والتي كانت تقابلها دوما وعود من طرف الدولة والمشرع بالاستجابة لهذه المطالب وتوسيع مجال الاختصاص، لأن ماورد في المادة 30 من مشروع قانون المسطرة المدنية سيؤدي إلى الانتقاص من عدد كبير من الملفات التي كانت تكرس احتكار المحامين للنيابة والترافع في هذه القضايا . كما ان تهريب النقاش المتعلق بمجال عمل المحامي من قانون مهنة المحاماة إلى قانون المسطرة المدنية الذي ينظم بصفة عامة المساطر والإجراءات في الدعاوى المدنية ولا يتطرق الى مهنة المحاماة ودور المحامي إلا من بشكل جزئي وغير مباشر يدل دلالة قاطعة على ان هناك نوعا من الاستهداف للمحاماة ولدورها داخل منظومة العدالة. مع العلم أن هذا التوجه يتضح ليس فقط في مشروع قانون المسطرة المدنية ولكنه يتبين أيضا في مجموعة من مسودات ومشاريع القوانين الأخرى التي تضيق من عمل المحامين وتصعب عليهم ممارسة مهنتهم سواء قبل بداية عملية التقاضي أو بعدها، مما يطرح تساؤلات كبرى حول السبب وراء هذا الاستهداف التشريعي الذي تتعرض له مهنة المحاماة في أهم مكون يحقق لها استقراراها وأمنها المهني وهو مجال العمل والاختصاص .

 

- ممارسة التقاضي بشكل شخصي وإغراق المهنة بآلاف المحامين الجدد :

لقد عرفت الأربع سنوات الأخيرة الماضية إغراق مهنة المحاماة بآلاف المحاميات والمحامين الذين التحقوا بمختلف الهيئات السبعة عشر المتواجدة عبر ربوع التراب الوطني،  لانه بعد ان كانت تنجح في امتحان ولوج مهنة المحاماة بضع مئات أصبحنا نجد على أن آلاف المترشحين الجدد قد نجحو في السنوات الأخيرة ، وأنه بعد ان كان الامتحان يجرى كل سنتين أصبحنا نلاحظ أن كل سنة يجرى فيها امتحانين كما حدث سنة 2023 . وبإجراء عملية حسابية سنجد على انه في الخمس سنوات الأخيرة تم إجراء ثلاث امتحانات لنيل شهادة الاهلية لمزاولة مهنة المحاماة ، الأول سنة 2019 ونجح فيه ما يوازي 4500 مترشحة ومترشح ، وفي 2023 امتحانين نحج من خلالها حوالي 5000 مترشحة ومترشح ، وبالتالي إذا أضفنا عدد القضاة والأستاذة الجامعيين سنجد ان العدد الإجمالي هو حوالي 10.000 مترشحة ومترشح ، وهذا العدد يوازي او يفوق عدد المحاميات والمحامين الذين كانوا يزاولون مهامهم داخل الهيئات منذ ظهور مهنة المحاماة بشكلها الحديث بعد الحماية والى غاية سنة 2018  ، أي أن عدد المحامين الذي كان موجودا طيلة أكثر من قرن من الزمن هو نفسه الذي ولج إلى المهنة منذ 2019 إلى 2023 ، واصبح العدد الإجمالي للمحامين بالمغرب يقارب 20.000 محامية ومحام .

 

وإذا كانت هناك عدة تساؤلات تطرح حول سبب هذه الطفرة العددية ومدى استغلال مهنة المحاماة لتصريف العطالة وإدماج خريجي الجامعات التي عجزت السياسات العمومية للدولة عن تشغليهم ، فإنه مهما يكن من أمر ، فإن ولوج هذه الاعداد الجديدة يبقى حقا راسخا من حقوقهم الوطنية والدستورية ، ولكن فقط كان المستحسن أن يتم خلق نوع من التوازن بين هذا المعطى المتعلق بالعدد الكبير للوافدين الجدد ان توازيها إصلاحات تشريعية من أجل توسيع مجال عمل المحامين وترسيخ احتكارهم لكافة المنازعات التي تعرض على القضاء حتى يستطيع الجميع ان يعمل ويمارس مهامه بكل كرامة وأريحية ، إلا أن حدوث العكس والاعتماد في مشروع قانون المسطرة المدنية على التقليص من اختصاصات المحامين بناء على معيار مالي وايضاً تضييق هذه الاختصاصات في مسودات ومشاريع قوانين أخرى كمسودة مشروع قانون مهنة المحاماة التي لم تستجب لمطالب إلزام الشركات التجارية والدولة وإداراتها بضرورة الاستعانة بمحام وتركت الأمر اختياريا ، ومنحت المجال للمحامين الأجانب وايضاً الشركات المهنية الأجنبية سواء كانت مدنية او تجارية من أجل الممارسة داخل المملكة المغربية ، كل هذا سيؤدي إلى نتائج عكسية وستخلق نوعا من البطالة المقنعة التي ستؤثر على الامن الاقتصادي والاجتماعي والمهني للمحامين .

 

- ممارسة التقاضي بشكل شخصي سيؤدي إلى ظهور مهن طفيلية :

ان تحديد المادة 30 من مشروع قانون مهنة المحاماة لسقف 40.000 درهم للبت في القضايا ابتدائيا وانتهائيا وعدم إلزامية الاستعانة بمحام للقيام بالمساطر القضائية ستؤدي إلى نتيجتين أساسيتين ، الأولى هي ان ينوب الشخص على نفسه وهذا الأمر كما سبق أن طرحنا أعلاه سيؤدي إلى ضياع حقوقه ومصالحه وتعقيد مهمة القضاء لان المتقاضي لا يدري كيف يمارس المساطر من الناحية القانونية والمسطرية ، والنتيجة الثانية هو أنه سيتعين بأشخاص ومهن أخرى ليس لها أي صفة قانونية أو تكوين في مجال التقاضي كالكتاب العموميين ووكالات تحصيل الديون التي بدل أن يتابعوا لارتكابهم جرائم انتحال صفة وممارسة اختصاصات مهنة منظمة قانونا ، ستصبح لهم الشرعية الكاملة والصفة القانونية للقيام بهذا الدور من دون حسيب ولا رقيب ، وهو ما سيؤدي إلى التضييق على عمل المحامين الذين سيتأثرون بهذه المنافسة غير الشريفة وغير المتوازنة ، ذلك ان على سبيل المثال إذا كان الكاتب العمومي سيطلب من المتقاضي مبلغ 50  درهم من أجل تحرير مقال فمن الأكيد ان هذا المتقاضي لن يلجأ إلى المحامي الذي قد يطالبه بمبالغ محترمة تناسب طبيعة وقيمة الملف .

 

ولن يقتصر الوضع على المهن التي تحاول انتحال صفة المحامين بشكل غير قانوني ومشروع ، ولكن هذا المستجد التشريعي سيعطي أيضا لبعض المهن المنظمة قانونا بالترامي على اختصاصات المحامين ومنحهم الصفة في القيام بها كالعدول حينما يتجاوزون اختصاصاتهم ويمارسون المساطر الشرعية والموثقون حينما يمارسهم المساطر العقارية والمفوضون القضائيون حينما يمارسون المساطر المختلفة . وبالتالي سنجد على أن المنتسبين لمهنة المحاماة سيجدون انفسهم أمام منافسة مهن غير معترف بها او معترف بها للقيام بمهام أخرى ، مما سيؤزم من الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمحامين وسيضر بأمنهم المهني .

 

ثالثا: تأثير المعيار المالي في مشروع قانون المسطرة المدنية على الامن والقضائي

يعتبر مفهومي الامن القانوني والأمن القضائي من المفاهيم الجديدة التي فرضت نفسها على الساحة القانونية والقضائية إلى درجة ان العديد من الدول رفعتها إلى مستوى المبادئ الدستورية ، وإذا كان مبدأ الامن القانوني هو جودة التشريع وحسن توقعه ودقة صياغته وسهولة فهمه وتطبيقه من لدن المخاطبين به والمؤسسات والأشخاص المكلفين بتطبيقه ، فإنه يتصل اتصالاً وثيقا بمبدأ الامن القضائي الذي يرتبط بحسن تطبق وتفسير وتأويل النصوص القانونية وخلق توجهات قضائية موحدة سواء على مستوى المحاكم الدنيا او على مستوى قضاء محكمة النقض التي يعتبر من اهم أدوارها بحكم انها محكمة قانون هو توحيد الاجتهاد القضائي والقضاء على التضارب الذي يمكن ان ينشأ على مستوى قضاء المحاكم الابتدائية والاستئنافية.

 

ومن هذا المنطلق ، يمكن التأكيد على أنه من خلال تتبع العمل القضائي لمحكمة النقض على أنها تتضارب في العديد من الإشكاليات القانونية عن طريق التأسيس لتوجهات قضائية مختلفة ومتعارضة ، وذلك يعود بالأساس الى الاختلالات العميقة التي يعاني منها نظام النقض المغربي المتجسد في محكمة النقض التي أخدنا بنيتها من محكمة النقض الفرنسي كما الحال دائما في باقي التشريعات والمؤسسات التي نستعيرها من النظام القانوني والمؤسساتي الفرنسي ، مع العلم أن الفقه الفرنسي يعتبر محكمة النقض الفرنسية أسوأ نظام نقض في العالم ، وبالتالي فهذا الأمر يعطينا صورة عن الاختلالات التي يمكن ان تعاني منها محكمة النقض المغربية انطلاقا من القياس من باب أولى .

 

ومن الاكيد أن ورود المادة 375 من مشروع قانون المسطرة المدنية بهذا المضمون والصيغة عن طريق رفعه للمبلغ المالي للقضايا القابلة للنقض إلى مبلغ 100.000,00 درهم ، سيؤثر سلبيا على دور محكمة النقض التي يبقى من أهم مهامها واختصاصاتها هو توحيد الاجتهاد القضائي ومراقبة حسن تأويل وتفسير وتطبيق القانون من طرف جميع المحاكم في كافة مراحل التقاضي . ذلك أن رفع هذا المبلغ الى هذا الحد سيحرم محكمة النقض كمحكمة قانون من التصدي للإشكاليات التي يمكن ان تثيرها كل هذه الملفات وسيمنعها من القيام بدورها في توحيد الإشكاليات القانونية التي قد تبرز اثناء تطبيق القانون على النوازل المعروضة على القضاء، بينما سيضيع الزمن القضائي لمحكمة النقض في البت في ملفات بسيطة وواضحة ولا تثير أي إشكاليات قانونية تستحق نظر هذا القضاء الأعلى، رغم قيمتها المالية التي قد تكون كبيرة .

 

فالملاحظ اذن على أن مشروع قانون المسطرة المدنية في المادة 375 جعل المعيار المالي هو المعيار الأساسي الذي يتحكم في نظام النقض الجديد ، وهذا الأمر منتقد لأن أساس نظام النقض في المبادئ المسطرية العامة هو توحيد التضارب القضائي بخصوص الإشكاليات القانونية المستشكلة ، مهما كانت قيمة النزاع ، بدليل أنه قد يلاحظ أن ملف لا تتجاوز قيمته عشرة ألاف درهم ولكنه يثير إشكاليات قانونية مهمة تتطلب تدخل محكمة النقض من أجل توحيد تطبيق و تفسير و تأويل النص القانوني ، بينما قد نجد ملف تكون قيمته بالملايير ولكنه لا يثير أي إشكالية قانونية تستحق نظر محكمة النقض . ولذلك فالمعيار الذي يجب اعتماده في نظام النقض هو معيار الإشكالية القانونية و مدى استحقاقها لنظر محكمة النقض، وليس معيار القيمة المالية للملف الذي لا تأثير له على نظام النقض. و بالتالي فإذا كانت الغاية من وضع هذا المعيار المالي الذي يضر أيضا بمبدأ المساواة بين المتقاضين هو إنقاص عدد القضايا المحالة على محكمة النقض و القضاء على إشكالية متخلف القضايا، فانه يمكن اعتماد آلية انتقائية تعتمد على غربلة الملفات التي تستحق النقض و لكن ليس على أساس المعيار المالي، و لكن على أساس معيار أهمية الإشكالية القانونية الذي يثيرها الملف أو القضية، كما هو الحال بالنسبة للمحاكم العليا الانجلوسكسونية التي تعتبر من أنجح أنظمة النقض في العالم.

 

وإذا كان من مبررات هذا التوجه لدى واضعي المشروع هو التقليل من عدد الملفات التي تعرض على محكمة النقض حتى تستطيع ان تبت في القضايا ذات الأهمية من الناحية المالية وايضاً من اجل تصفية الملفات في اجل معقول والقضاء على النسبة الكبيرة لمختلف القضايا التي تشكل احد المعضلات التي ترسخ بطئ العدالة. لكن كل هذه المبررات تتهاوى حينما نتأكد على أن جوهر العدالة هو ان يتم ترميز نظام النقض على حل الإشكاليات القضائية كيفما كانت قيمة النزاع، لان محكمة النقض لها دور سياسي وحقوقي وقانوني يفرض عليها توحيد الاجتهاد القضائي ومراقبة حسن تطبيق القانون قصد تطبيق وترسيخ الأمن القضائي ، من دون ان تكون هناك أي أهمية لقيمة النزاع . ولذلك فإن المشروع قانون حينما وضع معيارا ماليا حاسما في المادة 375 يتمثل في مائة درهم كشرط لقبول القضايا للطعن بالنقض وقبله حينما وضع المشرع المغربي في المادة 353 شرط مالي يتمثل في مبلغ عشرين الف درهم كشرط لهذا القبول من اجل الطعن بالنقض يكون قد أخطأ الطريق الإجرائي الصحيح الذي كان ينبغي تكريسه ، ورسخ عدالة تمييزية بين المواطنين والمتقاضين على أساس مادي من خلال حرمان الفقراء وذوي الدخل المحدود من التمتع بضمانات التقاضي على مستوى محكمة النقض ليس لأن ملفاتهم غير عادلة او واضحة ، ولكن فقط لانها لا تتجاوز قدر مالي معين ، بينما الأغنياء وذوي الدخل المريح يتمتعون بالعناية على مستوى الحصول على ضمانات التقاضي من خلال تمكينهم وبكل حرية من اللجوء إلى جميع أنواع ومساطر التقاضي وخاصة على مستوى محكمة النقض .

 

لقد كان حريا بواضعي المشروع قانون المتعلق بالمسطرة المدنية إذا كان هاجسهم الأساسي هو تطوير نظام النقض والتخفيف من عبئ ألالاف القضايا التي تثقل كاهل محكمة النقض والتي تؤثر على جودة الاحكام وعلى البطئ في إصدارها وارتفاع نسبة المتخلف ، هو اعتماد الية انتقائية لأجل انتقاء وغربلة القضايا ولكن ليس على أساس مالي صرف ، ولكن على أساس يحترم طبيعة محكمة النقض ودورها كمحكمة قانون من خلال الاهتداء بالقضاء الأنجلوساكسوني واحداث غرفة انتقائية تتكون من مستشارين من العيار الثقيل تكون مهمتهم هي دراسة الملفات التي يمكن ان تعرض على محكمة النقض وانتقاء فقط الملفات التي تثير إشكاليات قانونية مهمة او مستجدة مهما كانت قيمتها المالية ، لأن هذا التوجه هو الأقرب الى الصواب والى احترام مبدأ المساواة ومبدأ الحق في الولوج إلى العدالة والى الحفاظ على دور محكمة النقض كمحكمة قانون فقط .