تتقاسم جريدة "أنفاس بريس" مع قرائها، أهم ما جاء في هذا الحوار مع الطبيب الجراح الدكتور محمد النشناش، عضو هيئة الإنصاف والمصالحة والرئيس السابق للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والذي استضافته هاجر الريسوني في برنامج "بين قوسين"(تم بثه في "مشاهد ميديا")، للحديث عن مسار حياته منذ طفولته، وكيف عاش دون أن ينعم بحنان الأب وعطفه، ليكشف عَنْ مَنْ عوضه ذلك.
ووقف برنامج "بين قوسين" على نشاطه التلاميذي وارتباطه بقيادات وزعماء الحركة الوطنية بالشمال والجنوب، فضلا عن النبش في مرحلة حصوله على شهادتين للبكالوريا واحدة باللغة العربية والأخرى بالإسبانية. وكيف قاوم بوليس نظام فرانكو بعد عودته من موسكو، خلال حضوره للمؤتمر الطلابي من أجل الشباب والسلم من العام 1958.
مرحلة الابتدائي والانتماء لميلشيات "الفتيان" في تطوان
عن سؤال البدايات خلال مرحلة الدراسة الابتدائية بشمال المغرب بمدينة تطوان، استحضر الحقوقي محمد النشناش في حديثه، انخراطه وانتمائه لشبيبة حزب الإصلاح الوطني بقيادة الزعيم عبد الخالق الطريس، الذي خلق نوعا من الميليشيات كانت تسمى آنذاك بـ "الفتيان"، حيث يقول: "كنت أصغرهم سنا، بلباسي العسكري، وكنا نقوم باستعراضات في الشارع، واستمر ذلك إلى حين منعنا من طرف المستعمر الإسباني خلال سنة 1941/ 1942 ". وأضاف بأن حزب الإصلاح الوطني "كان يتوفر على تنظيمات شبه عسكرية ويقوم بتعبئة الشباب، وكنا نحرص كل يوم جمعة على إقامة أنشطة تحسيسية بالأناشيد والأعلام الوطنية، حيث كان الخلفية السلطان المولى الحسن يخرج للصلاة بموكبه الرسمي وكنا نغني الأناشيد الوطنية". وأشار إلى أن فترة الدراسة الابتدائية بمدينة تطوان "كانت قد عرفت مدارس رسمية وأخرى حرة باعتبارها مشتلا للحركة الوطنية، من خلال تأطيرنا من طرف رجال التعليم خصوصا على المستوى الرياضي والثقافي وكل ما يرتبط بالحركة الوطنية والاستقلال والحرية".
تقدم الوعي الوطني عند "اليتيم" في حضن الزعيم عبد الخالق الطريس
أما في المرحلة الثانوية "فقد تغيرت الأمور مع تقدم الوعي" حسب قوله، حيث أقدم الدكتور النشناش في تلك الفترة على إنشاء فرقة مسرحية قامت بعرض عدة مسرحيات قدمت بمدن العرائش والقصر الكبير، وكانت كلمة الافتتاح قبل تقديم العروض يتحمل مسؤولية إلقائها باسم التلاميذ الشاب محمد النشناش حيث يمرر من خلالها رسائل عن الحركة الوطنية والاستقلال والحرية.
عن علاقته بالزعيم عبد الخالق الطريس وكيف أثر عليه في تكوينه أوضح نفس المتحدث بقوله: "كنت يتيم الأب، وسنّي لم يتجاوز السنتين، لم أعرف معنى الأبوة، إلا عن طريق الزعيم عبد الخالق الطريس الذي كان قريبا مني ويمنحنا عدفه، والعالم الكبير الأستاذ التهامي الوزاني الذي كان كلما التقاني يقربني منه، وكذلك بالنسبة لأحمد الحداد الذي كان يمثل الصدر الأعظم، حيث كان يقطن قريبا جدا من بيتنا، كنت أشاهده يوميا عند خروجه".
بفضل هؤلاء يقول محمد النشناش "لم أشعر بفراغ عطف الأبوة"، في حين سهرت الأم على تربية أولادها الأربعة، حيث أكد على أنها "حرصت على تكويني ودراستي رغم أنها كانت امرأة أمية"، وأكد في هذا السياق بأن "الأم المغربية رغم أميتها فإنها كانت عبارة عن مدرسة ومؤسسة جامعية، بل أنها كانت مسؤولة عن الجانب التربوي والأخلاقي والتعليمي والصحي". وعن يتمه قال "أحسست بمعنى الأب في الحياة حينما أصبحت أبا وجدا، حيناها عرفت معنى مؤسسة الأب، وماذا ضاع مني طول حياتي".
الزعيم الطريس الإنسان الملهم ورجل الأخلاق
في سياق متصل تحدث ضيف البرنامج عن الزعيم عبد الخالق الطريس حيث وصفه يقوله: "كان إنسانا حنونا، ورجل أخلاق ومبادئ، كان قريبا للأسرة من جهة الأم، كان بالنسبة لي منبع علم أنهل منه كل ما أحتاج من زادي في التكوين والعلم والمعرفة، كان متمكنا من الخطابة، وسهل الكلام، كنا نحن الشباب ننبهر بشخصيته".
وعن تأثير عبد الخالق الطريس في مساره أوضح بأنه "لم يكن هناك أي اختيار، يا إما أن تكون شخصا غير مباليا بما يقع، أو أن تكون ملتزما بقضايا وطنك، ولذلك فكل الشباب المثقف والواعي بشمال المغرب كان منبهرا بالرجل، حيث اخترنا أن نكون في صفوف حزب الإصلاح الوطني بقيادة الزعيم الطريس الذي كان ينظم محاضرات وندوات في بيته، ـ بيت الأمة ـ يلقيها مفكرون من الشرق العربي من أمثال الفلسطيني الشقيري وشكيب أرسلان. وكان بيته مفتوحا للقاءات السياسية والاجتماعية والفكرية".
حديث عن مسألة إدماج حزب الإصلاح الوطني في حزب الاستقلال
وعن سؤال مساهمة إدماج حزب الإصلاح الوطني في حزب الاستقلال في تهميش الوطنيين بشمال المغرب أوضح قائلا: "كانت قيادة حزب الإصلاح الوطني تؤمن بالوحدة، كانوا وحدويين، يؤمنون بالمغرب الواحد" ودليله في ذلك "أنهم وقفوا في وجه الاستعمار الإسباني لما حاول خلق كيان مستقل بشمال المغرب، أثناء نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953 / 1954" وذكر بأن "الزعماء الذين وقفوا ضد هذا الكيان ومفهوم الحكم الذاتي بالشمال تحت سيطرة الإسبان، منهم عبد الخالق الطريس والخلفية مولاي الحسن وهو الذي أفشل هذه المحاولة".
وأكد الدكتور النشناش بأن الزعيم الوطني عبد الخالق الطريس "كان وحدويا"، وأشار إلى أن مغاربة الشمال في تلك الفترة من تاريخ المغرب "كانوا معجبين بالحركة الوطنية بجنوب المغرب، ولم يكن يهمهم نوع الحزب أو اسمه"، وفي هذا الإطار يوضح بقوله: "كان ولائنا وحبنا للوطن فقط. ولا نطمح إلا لاستقلال المغرب، وإن كان إخواننا في الجنوب لم يتصرفوا كما يجب من خلال تهميشهم للقيادة الوطنية في الشمال، باستثناء عبد الخالق الطريس الذي تحمل حقيبة وزارة".
شمال المغرب أدى الثمن غاليا بعد الاستقلال
وقال في هذا الصدد بأن "الشمال أدى الثمن غاليا من أجل استقلال المغرب، وما وقع تجاوز مدينة تطوان، حيث أحداث الريف عام 1958 شاهدة على ذلك، حيث "تصرف خلالها إخواننا في حزب الاستقلال بدون أخذهم بعين الاعتبار لخصوصية منطقة الريف، التي كانت تحت وطأة الاستعمار الإسباني مدة طويلة، إلى جانب الخصوصية اللغوية والثقافية"، ووصف ما حدث بـ "النكسة". وهكذا سيصبح حزب الإستقلال هو المهيمن في المغرب.
وبعد استقلال المغرب ظلت علاقة الحقوقي محمد النشناش وطيدة جدا مع كل من المهدي بن بركة وعلال الفاسي رحمهما الله، "كنت اعتبرهما من القيادات الكبيرة في البلاد، للأسف ضعنا في الشهيد المهدي بن بركة" حسب قوله.
موقف الطريس من سلوك القيادة بحزب الاستقلال
عن سؤال هل ندم عبد الخالق الطريس على الإدماج؟ أوضح الدكتور محمد النشناش قائلا: "لم يندم على الإدماج مع حزب الاستقلال، ولكن ندم على أن ما كان يطمح له من أهداف سيتم تحقيقها في المغرب لم تتحقق، والبلد لم تسر في الاتجاه الذي كان يحلم به بعد الاستقلال، خصوصا بعد أن طفى على المشهد الصراع الحزبي بين التقدميين والرجعيين، ولم يتقبل هذا الوضع، ولم يكن أبدا ضد الإدماج بل كان ضد سلوك بعض القياديين في حزب الاستقلال".
لماذا فرض على محمد النشناش دراسة الطب؟
بعد حصول الشاب محمد النشناش على شهادة البكالوريا باللغة العربية قرر إعادتها باللغة الإسبانية، على اعتبار أنه كان يحلم بدراسة الحقوق في إسبانيا، إلا أنه لم يحقق حلمه حيث فرض عليه دراسة الطب في إسبانيا، في هذا السياق يوضح قائلا: "كانت لدي ميولات أدبية، وكنت قويا في مجال الأدب والفلسفة، لذلك كان هدفي هو التوجه لدراسة الأدب والحقوق خاصة، لكن حين حصلت على البكلوريا الإسبانية سنة 1953، وكان الحل الوحيد هو الذهاب للدراسة في إسبانيا، حينها استدعانا المندوب الثقافي الإسباني الكولونيل "كارباخ" للتأشير والموافقة على منحتنا الدراسية، حيث كنا خمسة طلبة.
قال في هذا السياق: "بدأ المندوب الثقافي الإسباني يسأل كل واحد منا عن توجهه الدراسي، حيث اختار منا إثنان دراسة الطب، وواحد مجال الهندسة، وآخر دراسة الحقوق، دون اعتراض يذكر من طرف المسؤول الإسباني، ولكن لما سألني قلت له بأنني اختار دراسة الحقوق، إلا أنه رفض بغضب، بحكم أنه كان مطلعا على ملفي وعلى نشاطي السياسي السابق وعلاقتي بالزعيم عبد الخالق الطريس، خلال فترة الثانوي التي كنت أعبئ فيها الطلبة من أجل الإضرابات وإلقاء الخطابات السياسية"
وشدد على أن المندوب الثقافي الإسباني لم يقبل اختياره لدراسة الحقوق وقال له بأنه من الممكن أن يختار اختيارين لا ثالث لهما، "إما معلم لأن مدرسة المعلمين موجودة في مدينة تطوان، وإما دراسة علمية واختر ما تشاء. ولم يقبل أن يمنحني مهلة للتفكير وكان علي أن اختار أمامه، فقررت أن اختار دراسة الطب مثل أصدقائي".
وأضاف موضحا "في الحقيقة فرضت علي مهنة الطب، رغم أنني حققت فيها بعض الأعمال لكنها ليست مهنة من اختياري، ورغم ذلك كنت أتردد على كلية الحقوق بإسبانيا كلما سنحت لي الفرصة، أحضر للعروض والدروس وكانت لي علاقات صداقة مع الأساتذة، وأواكب الندوات الفكرية والحقوقية، وظلت حياتي متفرقة بين مهنة الطب والنصف الزمني الآخر أقضيه في متابعة التكوين الحقوقي، ولهذا استغلت في موضوع حقوق الإنسان إلى يومنا هذا".
موسكو وطلبة المغرب ونظام فرانكو الديكتاتوري
وعن سؤال هل كان مسموح ممارسة الأنشطة السياسية في إسبانيا مثل الطلبة المغاربة في فرنسا، أفاد بقوله: "من المعلوم أن فرنسا دولة جمهورية، كانت فيها مساحة من الحرية والديمقراطية، وتتوفر آنذاك على أحزاب سياسية ونقابات، لذلك فالشباب المغربي الذي درس في فرنسا وجد ميدانا حرا للتعبير، خلاف نظام فرانكو الإسباني الديكتاتوري، لا يوجد لا إعلام حر، ولا نقابات ولا أحزاب، كانت إسبانيا بلدا مغلقا تحت هيمنة الجيش، ولهذا فالطلبة المغاربة لم يكن مسموحا لهم القيام بأي أنشطة سياسية اللهم الدراسة والحصول على الشهادة".
واستطرد قائلا: "لم تكن لنا أي علاقة مع الطلبة المغاربة في فرنسا إلا بعد الاستقلال، حيث تم تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في العام 1957، وكنت من مؤسسيه، وكان المؤتمر المهم في تطوان سنة 1958، ومن ثمة بدأت الاتصالات وتجسير الروابط بيننا".
في هذا السياق يحكي عن واقعة ذهابه إلى موسكو، حيث قال: " تقرر سنة 1958، أن نحضر لمؤتمر الطلبة من أجل الشباب والسلم في موسكو، وبحكم أنني كنت مسؤولا على الطلبة بإسبانيا اتصلت بالطلبة من أجل الذهاب للمؤتمر، لكن الجميع رفض الحضور للمؤتمر بموسكو، خوفا من نظام فرانكو، فقررت أن أذهب وحدي"
وتابع يقول: "حضرت للمؤتمر، لكن عند عودتي لإسبانيا وجدت مشاكل مع الأمن حيث ظل يراقبني ويتابع كل خطواتي، وكنت مهددا بتوقيفي من الدراسة". وأمام هذا الضغط البوليسي ومنع الطلبة من التواصل معه أو زيارته وبعد اشتداد عزلته، فكر الطالب محمد النشناش أن يجد حلا للمشكل حيث يقول: "ذهبت للكنيسة اليسوعية عند أحد أصدقائه، وقلت له سأحكي لك خبرا، لقد كنت في موسكو"، لكن بمجرد أن سمع "الفقيه اليسوعي" كلامه وقف من كرسيه متسائلا: "هل فعلا ذهبت إلى موسكو؟".
هكذا سيستعمل الطالب النشناش بديهته ويجيب بسرعة "هناك في موسكو، لا شيء أعجبني. مع هيمنة الفكر الشيوعي والإلحاد، بل أنهم يحاربون الله ويحاربون الأديان".
التهم "الفقيه اليسوعي" الطعم فخاطب النشناش بقوله: "سنقيم محاضرة في الموضوع لفضح الشيوعيين. لقد ضمن محمد النشناش الحماية من الكنيسة التي كانت تحكم مع فرانكو والجيش، وبعد ذلك لم تعد هناك مراقبة بوليسية أو أي شيء يذكر بخصوص ذهابه لموسكو.