ابتلي المغرب والمغاربة بنخبة فاسدة تنهب المال العام دون رادع، بل تدير كارتيلات إجرامية في مناخ أهم ما يهيمن عليه هو المنافسة المتزايدة على الفساد، مما يطرح أكثر من تساؤل حول أسواق النفوذ بالمغرب وتأثيرها على تدبير الشأن العام.
لقد تابع الجميع تسونامي الاعتقالات التي طالت برلمانيين ورؤساء جماعات ورؤساء جهات ورؤساء غرف بتهم متباينة: (التزوير، تبديد المال العام، الاختلاس، الارتشاء، السرقة، الابتزاز، المحسوبية، الاتجار في المخدرات..إلخ). كل هذه الجرائم التي يتابع بها هؤلاء توفر تفسيرا لمشكلات التنمية وأزمة السياسات. فمن غير المفاجئ، مع ارتفاع وتيرة الملاحقات القضائية وملاحظات مؤسسات الحكامة، أن يتحقق المراقب، بالدليل والبرهان، بأن الفساد واسع الانتشار، وبأن النخبة السياسية المُسَيّرة وجدت بيئة ملائمة للقيام بأعمالها المنافية للقانون، علما بأن كلفة الفساد كبيرة على جميع المستويات، كما أنه غير قابل للترشيد، بل يعتبر مؤشرا قويا للإعاقة، وضربا لمبدأ التنافسية وتكافؤ الفرص. وتبعا لذلك، تتعطل إمكانية النفاذ إلى المؤسسات ما دام الفاسدون يستعملون كل الطرق غير المشروعة المتاحة لهم من أجل الفوز في الانتخابات ووضع السياسات التي تخدم مصالحهم، بعيدا عن القوى الحية التي تؤمن بالتدافع المدني المشروع، وتمتلك بدائل سياسية واقتصادية، وبإمكانها انتزاع التفويض بالطرق الديمقراطية المعروفة. إن هذا الانقضاض على السلطة يؤدي إلى انعدام الأمن، بل يدفع المستثمرين إلى شراء الحماية، والبحث عن "الشراكات القذرة" من أجل الحصول على أعلى العائدات في مدة قصيرة الأمد «للإثراء السريع». وهذا ما لاحظناه، مثلا، في خالة بعض المتابعين في قضية «إسكوبار الصحراء»، وعلى رأسهم سعيد الناصري «رئيس مجلس عمالة الدار الببيضاء» وعبد اللطيف بعيوي «رئيس جهة الشرق» اللذين راكما ثروة خيالية في مدة قصيرة، كما حازا سلطة سياسية جعلتهما مقربين من القرار الحكومي!
لقد تمكن «أصحاب الشكارة» من اختراق كل الأحزاب، بما فيها الأحزاب التي كانت محسوبة على الصف الديمقراطي، وكان قادتها وطنيون مشهود لهم بالنضالية العالية والحنكة السياسية ونظافة اليد، إذ حولها الفاسدون إلى كارتيلات فاسدة يستفيد زعماؤها وأثرياؤها من الحصانة والقرب من دوائر النفوذ، بل أصبحت هي المحددة لنطاق الفساد، عكس ما نراه في الدول المتمدنة حيث يكون المنتخب هو القدوة والمثال الذي يحتدى، ويتم انتخابه على أساس دفتر تحملات «برنامج» واضح، يدرك جيدا أنه سيحاسب عليه، كما يدرك أنه لن يكون بمنأى عن المتابعة القانونية في حالة تورطه في أي قضية فساد. نعم هناك مسؤولون أوربيون ويابانيون وأمريكيون فاسدون، لكن مقارنة مع المغرب هناك فرق كبير في النسبة.
إنها حالات استثنائية لا يتهاون بشأنها القضاء أو الإعلام. بينما نجد عندنا أن الحالة العامة هي الفساد والحالة الاستثنائية هي النزاهة وعفة اليد والضمير المهني العالي والحي. وإلا ما السر في هذه القائمة الطويلة من الملاحقات التي تزداد سنة بعد أخرى، رغم كل الخطب الملكية التي تنص دون لبس على تخليق الحياة السياسية، وعلى وضع ميثاق أخلاقيات العمل السياسي، وعلى تحسين نسل النخبة السياسية والإدارية المشرفة على تدبير الشأن العام، وما يستتبع ذلك من ضرورة تطهير الساحة السياسية من الفاسدين.
وتبعا لذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبرر الفساد الذي أميط عنه اللثام على مستوى القضاء وتقارير مجالس الحكامة «مجلس المنافسة والمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي»، لا بالصعوبات المصاحبة لما دأبنا على تسميته بالانتقال الديمقراطي، ولا بالتحول نحو اقتصاد السوق والأسواق المفتوحة، ولا بالتغيرات الإيديولوجية، ولا حتى بالأزمة الأخلاقية على مستوى تركيبة النخب المشرفة على تسيير الأحزاب والمجالس المنتخبة.
لقد باتت الأحزاب في قبضة أصحاب المال والثروة الذين يتمتعون الآن بالنفوذ السياسي على حساب أصحاب الأفكار والمناضلين المثقفين وحاملي المشاريع والسياسيين الإيديولوجيبن. كما أن التنافس لا يقع على تطوير البرامج وابتكار الأساليب العملية والموضوعية لتحقيق التنمية، بل الهدف الأسمى بالنسبة إلى هؤلاء هو مراكمة المزيد من المال وتحصين الزواج ما بين المال والسلطة، والمال والرياضة.. إلخ، حتى أصبحنا أمام كارتيلات حزبية وانتخابية تتبادل المنافع في ما بينها، ولا يهم اللون الحزبي ولا تاريخ الحزب، ولا البرامج، ولا الإديولوجيات. ولعل هذا ما حذا ببعض الظرفاء إلى القول: يحق للمغرب أن ينافس كارتيلات الكوكايين بكولومبيا، ما دمنا نتوفر على كارتيلات الأحزاب التي تحولت إلى تجمعات منظمة حاضنة للفاسدين.
فهل معنى ذلك أننا بحاجة إلى رجة تطهيرية جديدة قوية، حتى تكف الكارتيلات المتنازعة عن لعب دور الحجاب؟ ثم ما هو الدور الحاسم الذي تلعبه مؤسسات الحكامة والمؤسسات الرقابية في ردع الفساد والمفسدين إذا كانت تكتفي بإصدار التقارير وإبداء الملاحظات ورفع التوصيات؟ ما الفائدة من هذه المؤسسات (وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات)، إذا كانت تكتفي بالتعامل مع جرائم المال داخل الأحزاب والمجالس المنتخبات وشركات الدولة والمؤسسات العمومية بمنطق التوبيخ بدل رفع الأمر إلى القضاء ليقول كلمته؟
إن الاكتفاء بـ «التوبيخ» و»قرص الأذن» يعتبر وجها من أوجه الفساد ما لم يتم تغيير المهام والأدوار الموكولة لهذه المؤسسات الرقابية التي تتوفر على ميزانية مرتفعة ويتقاضى مسؤولوها رواتب وتعويضات مهمة، بينما يستمر الفساد في الإعلان عن نفسه دون حسيب، ولا رقيب!
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"