التَّقييم évaluation، كأداةٍ لقياس نتائج أو نجاعة السياسات والبرامج التنموية العمومية، يكاد يكون مفقودا، غائبا أو مغيَّباً في الثقافة السياسية. كل هذه السياسات والبرامج تخضع لِما يسمى "الإبحار بدون بوصلةٍ" navigation à vue.
وهذا يعني أن السياسات والبرامج، عندما تتمُّ صياغتُها وتدخل حيزَ التطبيق، تُترك لوحدها وكأنها تحمل في طياتِها كلَّ أسباب نجاحها. تُترك لوحدها بدون تقييم مرحلي وبدون تتبُّغٍ، سواءً بعد الانتهاء من صياغتِها أو أثناءَ وبعد تنفيذها. كلُّ شيءٍ يترك للحظ يتحكَّم فيه.
وكم هي كثيرة السياسات والبرامج التنموية العمومية التي لم تحض بتقييم لا قبل ولا أثناء ولا بعد تنفيذها، حيث يتم الانتقال، وبكل بساطة، من سياسة إلى أخرى ومن برنامج إلى آخر، دون القيام بأدنى تقييم لجدوى السياسة التي سبقتها.
وكم هي كثيرة السياسات والبرامج التنموية العمومية التي لم تحض بتقييم لا قبل ولا أثناء ولا بعد تنفيذها، حيث يتم الانتقال، وبكل بساطة، من سياسة إلى أخرى ومن برنامج إلى آخر، دون القيام بأدنى تقييم لجدوى السياسة التي سبقتها.
وأحسن مثال يمكن سياقُه في هذا الصدد، يتعلَّق بالمنظومة التَّربوية التي خضعت لعدة إصلاحات متتالية دون تقييم نتائجها عند المرور من إصلاح لآخر. كلنا نعرف الحالة التي يوجد عليها تعليمُنا اليوم.
المقصود بالتقييم هنا هو القيام بدراسةٍ شاملةٍ، على الأخص، عند الانتهاء من تنفيذ السياسات والبرامج التنموية العمومية. وحتى يكون التقييم ناجعا، يجب أن يكونَ مُنجزا من طرف جهة محايدة neutre متخصصة في تقييم مثل هذه السياسات والبرامج وغير معنية لا بصياغة هذه السياسات والبرامج ولا بتنفيذها على أرض الواقع. وهو ما يُصطلح عليه بالتَّقييم الخارجي évaluation externe. وبعبارة أخرى، يجب أن لا يتمَّ الاقتصار على تقييم داخلي évaluation interne الذي تقوم به الجهة التي وضعت السياسة أو البرنامج التنموي.
وهنا، تجب الإشارة إلى أن التقييم يجب أن يكون جزأ لا يتجزأ من السياسات أو البرامج العمومية، بمعنى أن تمويل التقييم يجب أن يكون مسبقا جزأ من تمويل هذه السياسات والبرامج. وهكذا، يصبح التقييم سياسة قائمة بذاتها وملتصقة التصاقا وثيقا بالسياسات العمومية.
غير أن التقييم، كقيمة اجتماعية، سياسية واقتصادية، وكوسيلة لضمان نجاعة السياسات العمومية، لم يكن دائما من أولويات الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام. بل ما نشاهده، وبكل أسف وفي غالب الأحيان، أن كل حكومة جديدة عندما يتِمُّ تنصيبُها تضرب عرض الحائط السياسات والبرامج التنموية للحكومة التي سبقتها و تبدأ من الصفر دون القيام بأي تقييم لما سبقها من سياسات عمومية.
وما هو متعارفٌ عليه، هو أن السياسات والبرامج التنموية العمومية هدفُها الأساسي هو خدمة الصالح العام، أي أن هذه السياسات والبرامج مهيِّأةٌ ليستفيد من نتائجها البلاد والعباد. فكيف للحكومات ولوُزرائها أن يُقبلوا على تنفيذ سياسات وبرامج جديدة دون التَّعرُّف على ما آلت إليه السياسات والبرامج السابقة؟.
وهذا يدفعني إلى الإشارة إلى قيمة أخرى تنعدم في تدبير الشأن العام ألا وهي ثقافة الاستمرارية la continuité. وهذا يعني أن العمل الحكومي يجب أن يكون عملا متواصلا بغض النظر عن الانتماءات السياسية للحكومات المتعاقبة على تدبير هذا الشأن.
إن دلَّ هذا على شيءٍ، إنما يدل على أن الحكومات، عوض أن تخدم تنميةَ ومصلحةَ البلاد، فإنها تخدم أجَندات الأحزاب السياسية التي تنتمي إليها. بل ما يهمُّ الأحزابَ السياسيةَ هو، أولا وقبل كل شيء، الوصول إلى السلطة. هذا إن لم نقل إن الوصولَ إلى السلطة، بالنسبة للأحزاب السياسية، أهمُّ من مصلحة البلاد!
لهذا، لا يجب أن نستغرب من فشل العديد من السياسات العمومية في غياب هذين العاملين الأساسيين أقصد التقييم والاستمرارية.
وقبل أن أختم هذه المقالة، أقول إذا لم تقم أيةُ حكومة بتقييم شامل وعميق، على الأقل، قبل تحضير الموازنات السنوية budgets annuels، لمعرفة ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية، فإنها لن تختلف عن سابقاتها. بل على كل حكومة أن تستخلص الدروسَ من ما يُوفِّرُه لها تقييمُ سياساتها أو سياسات الحكومات السابقة من مُعطيات قد تُفيد في تفادي الأخطاء وتجنُّب ما قد يؤدي إلى هدر المال العام.