الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

تدمري عبد الوهاب: في الحاجة إلى معهد وطني خاص بالدراسات المستقبلية للعلاقات الخارجية المغربية

تدمري عبد الوهاب: في الحاجة إلى معهد وطني خاص بالدراسات المستقبلية للعلاقات الخارجية المغربية تدمري عبد الوهاب
الملاحظ من خلال تصريحات بعض الإعلاميين، وكتابات بعض الأكاديميين المغاربة المتابعين والمهتمين  بالسياسة الخارجية للمغرب في أفريقيا والعالم، أنهم ينساقون وراء موجة التكرار والاجتهاد العقيم  من داخل النسق المؤسس للفعل السياسي الذي يطبع علاقات المغرب الخارجية .دون أن يكون لهذا" الاجتهاد"  أي إضافة أو مساهمة نقدية  تعمل على تصحيح بعض الهفوات أو المبادرات الغير المحسوبة التي تهمنا كمغاربة وكدولة. 
لأن الباحث الموضوعي  يجب ان يتعامل مع العلاقات الدولية كشأن  سياسي يبنى على تقديرات سياسية  يمكن أن  تكون صائبة  أو خاطئة. بالتالي عليه واجب التتبع  النقدي لها وذلك من باب التصويب وليس من باب التبخيس ولا التبجيل. كما  أن هذا التتبع  يجب ان يستند الى رؤية  استراتيجية تسير وفق قواعد علمية و خط  مستقيم وأهداف مدروسة. رغم ما يمكن ان يتخلل هذا الخط  من اعوجاجات نتيجة بروز بعض القضايا والأحداث اللحظية التي يمكن ان تؤثر في مسار هذه الاستراتيجية إما بالإيجاب أو بالسلب.  لكن دون ان تؤثر على المسار العام الذي عليه أن يروم إلى بناء علاقات وتحالفات سياسية واقتصادية ثابتة بالشكل الذي يخدم المصالح العليا للوطن الآنية منها والبعيدة. 
حاولت من خلال هذه المقدمة تحديد بعض المنطلقات المنهجية في تتبع أداء وزارة الخارجية في مسالة تدبير العلاقات الدولة الخارجية وذلك  في غياب لأي مقاربة حكومية لهذا الموضوع عبر مؤسساتها المنتخبة أو عبر معهد وطني خاص يرسم استراتيجية الدولة في مجال السياسة الخارجية التي  ترفع  المغرب إلى  وضعية  الشريك الموثوق فيه من طرف الدول التي يضعها ضمن أولويات علاقاته الخارجية. وذلك دون إغفال  العمل الدبلوماسي كقناة  لتصريف هذه الاستراتيجية والذي يتطلب كفاءات علمية ونزيهة لتفادي تكرار بعض الأخطاء كما حصل في روما سابقا، وكولومبيا لاحقا.
لن اعود هنا الى بعض المقالات التي كتبتها سابقا في ما يخص علاقات المغرب بالقوى العالمية الصاعدة في شرق القارة. خاصة خلال العشرية الأولى والثانية من الالفية الثالثة  حين قطع المغرب أشواطا مهمة  في تنمية شركاته مع الصين وروسيا والزيارات المتبادلة على أعلى المستويات خدمة للمصالح العليا للوطن. قبل أن يقدم الرئيس الأمريكي السابق  ترامب على الاعتراف التكتيكي بمغربية الصحراء أواخر سنة  2020 الذي ربطته بالتطبيع مع إسرائيل، وفي نفس الآن سد الطريق  على ما أنجزه المغرب في استراتيجيته الناجحة القائمة على تعدد الشراكات بانفتاحه على دول  شرق القارة.  بل ومحاولة اقحامه في تكتلات اقتصادية وعسكرية مناهضة للصين  وروسيا التي تخوض حربا مع الغرب على الأراضي  الاوكرانية وذلك في اطار صراع  جيو استراتيجي تتزعمه الدولتين.
أن هذا الاعتراف التكتيكي هو اعتبره البعض أن ذلك دافعا قويا لتحويل البوصلة  في اتجاه أمريكا.  والدخول  في صراعات مع الاتحاد الأوروبي الذي يعد الشريك الرئيسي للمغرب في مبادلاته الخارجية  التي تتجاوز 50 مليار يورو، وذلك حتى قبل  أن يكون مستعدا لذلك.  لما يتطلبه هذا النهج من  تغيير هيكلي لدورة الإنتاج المعدة منذ عقود لتلبية حاجيات السوق الأوروبية واستبدالها بهياكل  انتاجية.جديدة تلبي حاجيات السوق العالمية البديلة. لكن مع مرور الوقت تبين عدم صواب هذا النهج الذي يستند على الاستقواء بأمريكا التي اثبتت الوقائع انها لم تفعل يوما موقفها المؤيد لقضية الصحراء المغربية في اللجنة الرابعة للأمم المتحدة. ولا في علاقاتها الخارجية مع دول العالم التي تربطها بها علاقات قوية لحثها على الاعتراف بمغربية الصحراء.هذا دون إغفال  الجدوى الاقتصادية لهذا التوجه التي  ليست لصالح المغرب مطلقا، إذا ما استحضرنا  حجم المبادلات التجارية السنوية التي تراوح  3 مليار دولار. وهي في مجملها  عبارة عن مشتريات مغربية من الأسلحة الأمريكية. 
كل هذا دفع بالمغرب الى تصحيح المسار و العمل على  إعادة شيء من التوازن في سياساته الخارجية بإحياء علاقاته بالقوى العالمية الصاعدة في الشرق. إضافة إلى إعادة تحسين علاقاته بالدول الأوروبية من خلال دبلوماسية مرنة تخاطب العقل الاقتصادي والتجاري لهذه الدول دون التفريط في موضوع الوحدة الترابية الذي يجب ان  يفرض انطلاقا من المصالح التجارية والاقتصادية  المشتركة.
أن العودة الى الخط القويم في العلاقة مع دول أوروبا واسيا، يجب ان تتمثله الدبلوماسية المغربية كذلك  في علاقاتها بالدول الافريقية. دون  السقوط في  الانفعالات اللحظية  والتموضعات الخاطئة في الصراعات البينية التي تشهدها دول المنطقة. خاصة في الساحل والغرب الأفريقي.مع التركيز على الدبلوماسية الناعمة والنشطة التي تضع المغرب في موقع الوسيط المتوازن في حل هذه الصراعات. والتأكيد على مبدأ السيادة والوحدة الترابية لهذه الدول التي تعاني في مجملها من آفة الحركات الانفصالية. لإضافة الى طرح مبادرات شراكات اقتصادية  تعود بالمنفعة على الجميع.
- أما بتوسيع وإصلاح الميثاق المؤسس للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لتشمل كل من المغرب وموريطانيا والجزائر.تمكن الدول المنسحبة من العودة إليها خاصة وأن المغرب سبق وأن عبر عن استعداده للانضمام الى المجموعة  سنة  2016. وما يؤكد قولي هذا هو القرار الاخير لمجموعة إيكواس القاضي برفع العقوبات المالية والتجارية على دولة النيجر كخطوة لحث الدول الثلاث على العودة الى المجموعة.
- أو حتى بطرح مبادرة اقتصادية  أخرى  تجمع دول الساحل والمغرب وموريطانيا ولما لا الجزائر. علما أن قبول او رفض هذه الاخيرة للدعوة سيكون في كلتا الحالتين  لمصلحة المغرب الذي بمقتضى هذه المبادرة يكون قد  ترفع عن كل الإشكالات البيئية ووضع مصلحة شعوب المنطقة فوق كل اعتبار. ويظهر الجزائر بمظهر الدولة الغير المكترثة بالمصالح المشتركة لدول المنطقة.
اقول هذا حتى لا تنساق علاقات بلدنا الخارجية في متاهات الصراعات الإقليمية. وحتى تتكلل المبادرة الاقتصادية الأطلسية بالنجاح. لأن المبادرة رغم أهميتها ، إلا أن  الطريقة التي طرحت بها يطغى عليها طابع التسرع والانفعال بالأحداث المستجدة في هذه المنطقة. وتظهر المغرب كذلك  بمظهر المنفعل على  عدم استجابة  مجموعة  إيكواس  لطلبه. هذا  في الوقت الذي كان يجب التهيئة لهذه المبادرة  بدبلوماسية متأنية وهادئة. مع التنبه إلى بعض    الحلقات المفقودة  في المبادرة، التي كان من المفروض الاشتغال  عليها في الشق الاقتصادي والسياسي  مع أطراف دولية أخرى فاعلة في المجال الجيوسياسي  لدول الساحل، التي تربطها بها علاقات سياسية  وأمنية،  وتجمعها بها  شراكات اقتصادية وتجارية ، واخص بالذكر روسيا والصين اللتان  تجمعهم  ايضا  بالجزائر والمغرب علاقات شراكة متميزة قادرة على التأثير على كل الأطراف  في اتجاه إنجاح المبادرة  التي تعود بالنفع على الجميع . وهو ما كان كذلك سيمكن المبادرة من تجاوز العائق الجغرافي المتمثل في غياب الحدود المشتركة  مع دول الساحل التي تمتلك بالمقابل حدودا طويلة مع كل من موريتانيا والجزائر .
خلاصة القول أن الخارجية المغربية تحتاج لمعهد وطني  خاص بالدراسات المستقبلية.  يضع خططا استراتيجية مدروسة وغير منفعلة بالأحداث اللحظية.   توجه السياسة الخارجية للدولة   ضمن رؤية شاملة تجمع بين الأهداف السياسية والاقتصادية الانية والبعيدة التي يسعى المغرب الى تحقيقها بغاية الرقي والنمو، والتموضع الجيد في محيطه الإقليمي والدولي. خاصة مع ما يشهده العالم حاليا من تحولات جيو استراتيجية ستغير الكثير من معالم النظام الدولي الحالي الذي رغم كل المخاطر التي  تتخلله  إلا أنه يوفر فرصا كبير  لمساهمة  دول الجنوب في صياغة النظام العالمي الجديد، الذي يعتبر تشكله مسألة وقت بالنسبة للكثير من الباحثين في السياسة الدولية. كما أن هذه الاستراتيجية يجب ان تكون ضمن نسق مستقيم وثابت يستشرف الآفاق المستقبلية لهذا الصراع، حتى يضع البلد في موقع الشريك الموثوق به لدى شركائه  الدوليين و لدى التكتلات الاقتصادية الجديدة،  التي بدأت تأخذ أبعادا كبيرة سواء من حيث التمثيلية البشرية التي تشكل 45%من سكان العالم. أو من حيث ما تمثله من نسب عالية  في  الناتج الإجمالي العالمي الذي يتجاوز ما تمثله دول مجموعة السبع. وهو ما يتطلب من المغرب إيجاد موقع قدم فيها. لأن السياسة الخارجية للدول على عكس ما نراه من نفاق في سياساتها الداخلية لاعتبارات انتخابية او غيرها، تحتاج للقيم الأخلاقية كالصدق والوفاء بالالتزامات والاحترام المتبادل لسيادة الدول المقرون بالشراكات الاستراتيجية  ذات النفع المتبادل والمصالح المشتركة.