"...الحدث في التاريخ ليس ما يمكن رؤيته أو معرفته، ولكن ما يصير إليه...". تُنسب هذه العبارة إلى المؤرخ الفرنسي ميشيل دوسرتو. شبَّه البعض الحدث في التاريخ مثل الجذمور الذي ينتشر بسرعة بين الأشجار دون أن يكون محكوما بمركز ما. الحال، في خضم التحولات الرقمية السريعة لم يعد الحدث التاريخي يحمل قيمة في ذاته، وإنما فيما يتصل به من نتائج. لا يُؤخذ بأسبابه بل بمضاعفاته. الحدث اليوم يظهر في حركة انبعات مستمرة ومفتوحة على متواليات لا نهائية. ينحصر النقاش حول تأثير وسائل الاعلام على الحاضر البشري، حاضر اختزل في صورة نقلا عن صورة. نحن أمام وسائل جديدة تضفي على الخطاب صنوفا من الحماسة والتجييش وتشويه الحقائق.
علينا أن نتذكر في السياق العربي حرب 1967. وقتها كان المذيع المصري الراحل أحمد سعيد من خلال برنامجه الشهير "صوت العرب" ينقل البيانات العسكرية التي تؤكد الانتصار العسكري الساحق للجيش المصري على العدو الإسرائيلي. وحتى عهد قريب ما كان ينقله وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف في حرب الخليج الثانية 2003. مع دخول زمن الفضائيات خلال التسعينات من القرن الماضي زادت السرعة في نقل الخبر وتفاصيل الخبر، إذاك لم تعد وسائل الاعلام المحلية قادرة على تزييف الحقائق. أَو لم يكن ما ينعت ب"الربيع العربي" صناعة تحكمت فيها مواقع التواصل الاجتماعي. أَو لم تنطلق حملات المقاطعة لبعض المنتجات من هذه المواقع أيضا؟
عودة إلى الحدث التاريخي، سبق للفيلسوف جاك دريدا أن اعتبر الحدث شيئا مستحدثا تاريخيا أو لنقل مُشييدا تشييدا تاريخيا يأخذ ثراءه من عمق ما يتصل به من تحول يشمل تغيير المعاني. وبذلك، الحدث العظيم إن جاز التعبير هو الذي يجب أن تتوفر صفات الصدمة والمباغتة واللاتوقع والاهتزاز.
بهذا المعنى قد يختص الحدث بصفتي التشتت والتشظي، بما أنه كُلّ متعدد الرؤوس مثل المخادع بروتيوس Proteus الذي يُكيف نفسه مع مختلف الأوضاع . لا يخضع الحدث لمسار خطي يسبق ماهيته، بل يجب أن يدرج ضمن مآلاته التي تتميز بالانفتاح الدائم على كل الاحتمالات الممكنة. إذ ليست هناك قدرية في الحدث. بهذا الاعتبار، وجب أن نستبعد أشباه الأحداث التي قد تتطفل على الأحداث التاريخية بأحداث زائفة وفق ما يُنبهنا إلى ذلك مؤرخ الزمن الراهن بيير نورا.
عودة الحدث مع ثورة الرقميات الجديدة بدأ يفرض نفسه في أروقة الكتابة التاريخية بعد عقود من الاستبعاد المنهجي. ليس الحدث هنا بصيغة الزواج الكاثوليكي الذي عقدته مدرسة الوضعانيين نهاية القرن التاسع عشر في سياق خاص جدا، لكن في صورة طائر الفينكس أو أبو الهول الذي ينبعث من جديد ليرسم ولادة جديدة على الحياة؛ طائر يحترق ويتحول إلى رماد، ومن رماده يخرج مرة أخرى طائر جديد يعود إلى موطنه الأصلي حاملا بقايا الجسد القديم إلى معبد الشمس في هيليوبوليس في مصر. أو في صورة العنقاء في توصيف فرانسوا دوس التي لا تختفي أبدا، وتترك أثارا تشهد عليها. المؤكد، أن هذه الثورة الرقمية ساهمت في صناعة "التضخم الحدثاني". أضحى مؤرخ اليوم كما لو أنه يعاين وقائع الحاضر من فوق عربة متنقلة، لا يستطيع تسجيل كل ما يمر أمامه من أحداث بسبب سرعة تدفق سيولة الأحداث وتبادل المعلومات.
لا يمكن أن يقرأ هذا التحول إلا في سياقه المنهجي، غداة نهاية الحرب العالمية الثانية كان ورش التاريخ الراهن قد بدأ يجد موقعا له في كتابات المؤرخين، وبدأ يفرض نفسه عليهم، وأصبح تدريجيا مع الوقت ينظر إليه كفرع من فروع التاريخ . غير بعيد عنا، في التجربة الاسطوغرافية الفرنسية بدأ الاعتراف بمصطلح "الزمن الراهن" يجد طريقه في أواخر السبعينات من خلال تأسيس معهد تاريخ الزمن الراهن IHTP التابع للمركز الوطني للبحث العلمي CNRS. وفي المغرب تم توقيع اتفاقية بين جامعة محمد الخامس والمجلس الاستشاري لحقوق الانسان يوم 25 يناير 2010 أحدث من خلالها ماستر التاريخ الراهن في سياق تفعيل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة.
مواكبة لهذا الانشغال المنهجي، صدر كُتيب "الحدث ووسائل الإعلام" للباحث المغربي في التاريخ خالد طحطح عن منشورات كتاب المجلة العربية في عددها 260 سنة 2018. والكتاب من حيث بُنيانه المنهجي يضم مقدمة وثلاثة فصول مذيلا بخاتمة وقائمة للبيبليوغرافيا في حوالي 116 صفحة من الحجم الصغير. وعمن خلال هذا البنيان يحاول خالد طحطح أن يواكب النقاش المنهجي الذي صاحب تحولات الحدث التاريخي، وأن يشرك القارئ في عمق النقاش حول الحدث ووسائل الاعلام. في حقيقة الأمر، يتناول الكتيب مسألة جديرة بالمتابعة في الكتابة التاريخية ترتبط باستعمالات الحدث في زمن تعدد الوسائط الرقمية. يتعلق الأمر، مثلما يؤكد صاحب الكتيب بولادة جديدة للحدث تنقله من البحث عن أسبابه إلى البحث عن أثره، تحولت معها المقاربة من القمة إلى القاعدة.
طبيعي أن يحدث هذا التحول نوعا من التصدع في مكتسبات المعرفة التاريخية التي أحالت الحدث إلى وضعية الهامشية. شيدت مدرسة الحوليات الفرنسية تفوقها باستبعاد الحدث، أو على الأقل حصره في تحليل البنية. الحدث بوصفه موضوعا للإعلام يظهر باعتباره بداية لمرحلة جديدة. لم تكن أحداث ثورة ماي 1968 وسقوط جدار برلين وثورات الربيع العربي أحداثا سياسية وفقط، بل تحولات سحبت معها البنية نحو تحولات واضحة. يشهد الحاضر على اكتساح كبير للحدث المُثمن ".
حينما ننطلق من هذه الفرضية تصير مشهدية الكتابة التاريخية تؤشر على بداية تحول حاسم بدأت ترسمه وسائط الثورة الرقمية في علاقتها بمكتسبات المعرفة التاريخية. باختصار، بدأ يظهر تحول تنتقل معه زاوية المعالجة من أحداث الماضي نحو أحداث الحاضر، أو ما يسمى بالحدث الآني. تُخصص للحدث الآني متابعات سياسية، قراءات صحفية ونقاشات اعلامية...سبق للمؤرخ الفرنسي بيير نورا أن نبَّه إلى خطورة التناول الإعلامي للأحداث التاريخية بالقول: "...وسائل الاعلام اغتصبت التاريخ وجعلت الحدث وحشا، لأنها تفرض علينا، يوميا عناوين تصنع منها أحداثا وقبل أن تنقلها إلى الجمهور، يخضعها رجال الاعلام للتنسيق، وإعادة التأهيل، والتوضيب والتصميم، مما يفرض علينا مزيدا من الشك والريبة، إذ الجمهور المتلقي لا يميز هنا بين الحدث الكبير الذي يفرض نفسه، وبين الحدث الميت الذي يأتي كعنصر مشوش... ".
يتعلق الأمر، بتصنيف للأحداث، بين أحداث تتميز ببعد الشمولية والاختراق والقدرة على تغيير المسار، وأحداث فورية مشتتة سريعة التحلل في الحاضر. فهل يشهد الحاضر على تداخل بين الأحداث والأخبار؟
نعود إلى ميشيل دوسرتو، الحدث عنده ما يتصل بالفعل، بالصناعة، بالأثر والتحول. الحدث بطبيعته غامض ومركب وعلى درجة عالية من التشبيك، لا يستمد دلالته إلا في اتساقه مع عناصر فهم أخرى ضمن شبكة موضوعاتية تعطيه معنى واضحا مثلما يفهم من قول المؤرخ الفرنسي فرانسوا فوري . ولنزع الالتباس وجب على العلوم الإنسانية أن تتصدى لكل القراءات الاستهلاكية للحدث، وتنزع التشويش عن كل القراءات التي تعيق عملية الفهم التاريخي.
مع ثورة الوسائط الرقمية وما صاحبها من هيمنة الصورة بدأت تظهر تصدعات في مكتسبات المعرفة التاريخية، وخاصة تلك النظرة التي شيدتها مدرسة الحوليات حول الحدث التاريخي. لقد فرضت هذه الثورة الإعلامية زمنا جديدا على المؤرخ، يمكن وسمه بزمن "متابعة الحدث" أو متابعة الحدث الآني. لم تعد هذه الوسائط تخبرنا بالحدث، بل تصهرنا فيه. نحن أمام حوادث مفتتة ومتشضية وضائعة في سلسلة من العجالات " الأخبار العاجلة". الحديث عن الحدث الآني المعاش يفرض نفسه تاريخا حاضرا لا يكف عن الاحتراق في الراهنية بتعبير المؤرخ الفرنسي فرانسوا هارتوغ ". لقد ساهمت الصورة حسب جان بودريار في تعظيم الحدث من خلال تكثيره إلى ما لا نهاية، وبهذا لعبت دور الالهاء والتحييد. نحن إزاء حدث صُنع إعلاميا، قد يماثل الحقيقة في شيء، وقد يتخذ يعدا تضليليا وفق ما حذر منه بودريار ب "خطر وسائل الاعلام" في صناعة الحدث. واضح أن الصورة اليوم صارت تتلاعب بصريا بالمتلقي وتأخذه نحو العوالم التي تريد.
بالنهاية، مدار الكتاب إجابة عن سؤال أساس، علاقة الحدث بوسائل الاعلام. وعلى امتداد صفحاته يأخذنا الباحث في رحلة لولبية، تبدأ بتشكلات الحدث في المتن الاسطوغرافي الأجنبي، وتنتهي بتأكيد سطوة وسائل الاعلام على الراهن البشري. في المحصلة، يطرح الكتاب قضايا جديرة بالمطارحة على طاولة النقاش التاريخي من أجل تعميق الفرضيات وممارسة الاستقراء البيبليوغرافي. بهذا، يُسدي الكتاب خدمات مهمة إلى عموم الباحثين في فرع التاريخ الراهن ويضعهم في قلب النقاشات الابستمولوجية التي تصحب مسيرته من أجل الاعتراف به من طرف المؤرخين فضلا هن كونه يحقق السبق المعرفي في تناول الموضوع على الأقل في السياق الإقليمي وحتى العربي.