Saturday 3 May 2025
سياسة

أريري: "منارة كاب سبارطيل"..مفتاح كناش تحملات الملك لاستعادة أمجاد المغرب البحرية

أريري: "منارة كاب سبارطيل"..مفتاح كناش تحملات الملك لاستعادة أمجاد المغرب البحرية الزميل عبد الرحيم أريري في مقهى "كاب سبارطيل" بطنجة بعد إعادة تهيئة المنار
لم أختر هذه الزاوية بمقهى منارة "كاب سبارطيل" بطنجة عبثا لارتشاف عصير "سبارطيل"(هو عصير لذيذ بالحليب والفواكه الجافة)، بل الاختيار تم بتوصية من مهندس القناطر والطرق نجيب الشرفاوي، أستاذ جامعي وأحد الخبراء المغاربة في هندسة الموانئ والملاحة البحرية الذين أستأنس بمؤلفاته وكتاباته في كل مايهم عالم البحار. فالموقع الذي جلست فيه يوجد في ملتقى البحرين بشكل يجعل المرء يرصد حركة الملاحة البحرية بكل من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
 
لماذا؟
أولا: لأن "منارة كاب سبارطيل" توجد بمضيق جبل طارق الذي يشهد مرور 500 سفينة في اليوم، عبر المياه الإقليمية للمغرب من جهة المحيط الأطلسي، ومرور 300 سفينة يوميا بمياهنا الإقليمية من جهة البحر المتوسط.
 
ثانيا: "منارة كاب سبارطيل"، بقدر ماكانت سببا في افتراس القوى الأوربية لسيادة المغرب في النصف الثاني من القرن 19، بقدر ما ترمز هذه المنارة اليوم لتمرد المغرب ضد القواعد الملاحية الأوربية المجحفة،  بشكل جعل المغرب يستعيد حاليا سلطة القرار على كل ما يهم المرور بمضيق جبل طارق.
 
نعم كانت هناك بضع منارات ترشد البحارة بسواحل المغرب (أهمها منارة بوجدور في القرن 16، ومنارات القراصنة بسلا في القرن 17)، لكن الجيل الجديد والعصري للمنارات Les Phares بالمغرب لم يبدأ إلا مع "منارة كاب سبارطيل" بطنجة التي كانت المدخل لتسلل الحماية للمغرب.
لنفهم ذلك علينا استحضار السياق التاريخي، إذ في عام 1860 غرقت باخرة تابعة للبحرية البرازيلية تحمل اسم Dona Isabel قرب سواحل طنجة، مما أدى إلى غرق كل تلامذتها الضباط (250 تلميذا ضابطا)، بسبب انعدام الرؤية الناتجة عن الضباب الكثيف بمضيق جبل طارق، وقامت القوى الغربية الكبرى بالضغط على محمد بن عبد الرحمان، سلطان المغرب آنذاك، لبناء منارة ترشد البحارة لمخاطر الملاحة بمضيق جبل طارق لتجنب الخسارات البشرية والاقتصادية. ولم يكن أمام سلطان المغرب سوى الرضوخ، لأن المغرب كان "رجلا مريضا" في تلك الفترة، وخرج منهزما من معركة ايسلي عام 1844، فضلا عن غارات إسبانيا على تطوان عامي 1859\1860، وتداعيات اتفاقية المهادنة مع بريطانيا عام 1856 التي جعلت البريطانيين يتحكمون في معظم مفاصل اقتصاد المغرب وموانئه.
 
القوى الغربية استقدمت المهندس الفرنسي Léonce Reynaud الذي وقع اختياره عام 1861 على موقع "كاب سبارطيل" لبناء المنارة Phare، التي ستشعل أول أضوائها لإرشاد السفن في سنة 1864. وبهذا الإنجاز التقني والهندسي ارتفع صبيب التجارة البحرية بين أوربا وجنوب المحيط الأطلسي وشرق المتوسط عبر مضيق جبل طارق.
 
وبعد 50 سنة تم فرض الحماية على المغرب عام 1912، فتم تعميم المنارات Les phares على كافة سواحل المغرب، سواء تلك الخاضعة لنفوذ الاحتلال الإسباني أو تلك الخاضعة للاحتلال الفرنسي، إلى أن وصل عددها إلى 36 منارا بحريا، أشهرها منار العنق بالدار البيضاء الذي بناه المهندس الفرنسي Albert Laprade في سنة 1920.
 
ثالثا: هذه الزاوية بالمقهى بمنارة "كاب سبارطيل" شكلت مفتاح كناش تحملات الملك محمد السادس لإعادة أمجاد المغرب البحرية، وبالتالي استعادة المغرب لسيادته على الملاحة في مضيق جبل طارق. إذ أن عداد compteur انتفاضة المغرب ضد جبروت الغرب في البحر، انطلق من "منارة كاب سبارطيل". فمنارة سبارطيل لا تلعب دور إرشاد البحارة الى السواحل لتجنب الاصطدام مع الصخور أو مساعدتهم على الرؤية الليلية، بل ترشد العالم إلى إمساك المغرب بسيادته البحرية.
 
وإليكم الدليل:
 
1. قرار المغرب في مطلع الألفية الحالية بناء أضخم ميناء بطنجة.إذ لا يعقل أن المغرب الذي يوجد في ثاني أهم مضيق بحري في العالم بعد مضيق مالكا بسنغافورة، لا يستفيد من هذا الكم الهائل من الرواج، علما أن مضيق جبل طارق تمر منه سنويا  أكثر من 100.000 سفينة تجارية في العام. وبالتالي كان من الضروري أن يكون للمغرب موطئ قدم في هذه "الكعكة الاستراتيجية العالمية" ، وهو رهان تم ربحه اليوم بامتياز، لدرجة أن ميناء "طنجة ميد" أصبح اليوم من المنصات العالمية في اللوجستيك والنقل الدولي.
 
2. بناء ميناء الناضور ميد، الذي سيصبح إحدى أكبر منصات النقل في مجال الغاز والمحروقات على المستوى الدولي.
 
3. بناء قاعدة عسكرية بالقصر الصغير، وهي القاعدة التي منحت اليوم للمغرب جواز المرور إلى نادي الدول التي لها بصمات في الاستراتيجية الدولية للبحار. وهو مايقودني للنقطة الثالثة.
 
4. كسر المغرب الاحتكار الأوربي نهائيا في مراقبة الملاحة البحرية بمضيق جبل طارق، عبر القرار الاستراتيجي ببناء منظومة مراقبة رواج البواخر التي تعرف برمز VTS، وهي المنظومة التي دشنها الملك محمد السادس بالقصر الصغير عام 2010، بشكل جعل المغرب ينسف احتكار الإسبان لهذه المنظومة البحرية في مدينة طريفة.كما سمحت منظومة المغرب باقتسام مراقبة المرور بالبحر المتوسط لكل السفن العابرة للمضيق، عبر منح المنظمة العالمية للمغرب صلاحية التحكم في مراقبة كل سفينة قادمة من المحيط الأطلسي متجهة نحو شرق المتوسط، على أن تتولى إسبانيا من خلال قاعدة مدينة طريفة، التحكم في مراقبة السفن القادمة من شرق المتوسط المتجهة نحو المحيط الأطلسي.
 
5. إدماج "منارة كاب سبارطيل" في خريطة التراث البحري العالمي كواحدة من بين 1500 منارة ما زالت تشتغل في العالم. إذ رغم التطور التكنولوجي واعتماد السفن بالعالم على  تحديد الموقع بناء على النظام الأمريكي GPS وكذا على الرادار، فإن ذلك لم يلغ دور المنار phare في العديد من السواحل التي مازال البحارة يعتمدون عليه في إرشادهم: إما  لتجنب مخاطر الملاحة أو للسير في الممر الآمن، وهو ما جعل المنتظم الدولي يتوج المغرب بمنح "منار كاب سبارطيل" (بعد إعادة ترميمه وإصلاحه وتهيئة جنباته وتجهيز متحفه وافتتاحه عام 2021) الجائزة العالمية "المنارة التراثية" لسنة 2023.
 
لكن بما أن المغرب أضحى يلعب في نادي الكبار بحريا بعد قرار الملك محمد السادس، إنجاز ميناء طنجة ميد، والناضور ميد وميناء الداخلة الأطلسي، وبعد قرار توسيع المنطقة الاقتصادية البحرية للمملكة وإعادة ترسيم الحدود البحرية بجنوب المغرب مع جزر الكناري، على المغاربة اليوم حشد التعبئة داخليا ودوليا لإدراج "منار كاب سبارطيل" في سجل اليونيسكو كثراث للإنسانية.
 
إن تحقق هذا المطلب، سيلعب "منار كاب سبارطيل" دورا، ليس فقط في إرشاد البحارة للساحل، بل سيرشد العالم كله إلى استعادة المغرب لأمجاده البحرية واستعادته السيادة على كامل سواحله وتحكمه في الملاحة الدولية وفي كل سفينة تعبر سواحله.