الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

مـحـمـد بنـمـبارك: الانكفاء العربي أثناء العدوان على غزة

مـحـمـد بنـمـبارك: الانكفاء العربي أثناء العدوان على غزة مـحـمـد بنـمـبارك
مرة أخرى يخلف العرب موعدهم مع القضية الفلسطينية وتبددت وعودهم لقياداتها وشعبها، بعد أن تحلل الحكام العرب من التزاماتهم المعتمدة في كراريس قرارات القمم العربية ومجالس الجامعة العربية، وعاكسوا توجهات شعوبهم التي تعاطفت وتضامنت بشكل كامل مع غزة والضفة وحماس والمقاومة وفلسطين دون تمييز.
 
اختلط الأمر في البداية على العواصم العربية، بين هل نحن أمام إحدى المراحل المصيرية للقضية الفلسطينية والدفاع عنها يعد واجبا قوميا وتاريخيا أمام الهجمة الإسرائيلية الأمريكية الغربية بغض النظر عن مسببات العدوان؟ أم أن الموقف لا يتعدى مغامرة غير محسوبة العواقب لحركة مقاومة إسلامية إخوانية نزقة تخضع لأجندة قوى إقليمية غير عربية؟ حماس هذه الحركة المتمردة التي اختارت طريق المقاومة وعاكست المبادرات السلمية وخرجت عن الطوع العربي، وتمردت على السلطة الوطنية برام الله المحسوبة على الجامعة العربية، كيف يمكن التعامل مع اندفاعها وإقحام العرب في مواجهة مباشرة غير مرغوب فيها مع إسرائيل وأمريكا ؟ أم أن الموقف لا يعدو مؤامرة تقف وراءها أطراف تستغل القضية لأجندتها الخاصة ؟ فهناك من اتهم إيران بالوقوف وراء عملية طوفان الأقصى؟ وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك حين اعتبر العملية برمتها فخ إسرائيلي تم حبكه لاستدراج حماس إلى حرب غايتها تدمير غزة بالكامل وترحيل أهلها، في سياق المخططات الإستراتيجية لرئيس الوزراء نتنياهو، لتصفية القضية الفلسطينية !. لكنها في المحصلة كانت حربا ضد الشعب الفلسطيني وليست مع حماس.
 
لكن بدل تركيز العرب بحثهم في تدارس سُبُل لجم العدوان الإسرائيلي على غزة، ومخاطبة المنتظم الدولي لاسيما الإدارة الأمريكية ودول أوربية، بصوت موحد كقوة عربية مدعومة بمنتظم إسلامي يضم قوى إقليمية وآسيوية لها من الأوراق الضاغطة ما يمكن الأنظمة العربية والإسلامية مجتمعة من لعب دور أساسي للتأثير على مجريات هذا الصراع، انشغل العرب مع الأسف الشديد بقضايا خلافية حول فلسـطين ذاتها، كالتردد والاحتياط من تحديـد مـوقف من العملـية الـعسكريـة " طوفان الأقصى" إدانة أو تأييد أو غض طرف، والموقف من حركة حماس بين مـؤيد ومعـارض ومتحفظ، ثم الـموقف من وسائـل كبح جماح جيش الاحتلال، ثم كيفية مواجهة الموقف الأمريكي من الدعم المطلق لإسرائيل وانخراط واشنطن بشكل مباشر في الحرب على غزة.
 
وعوض تصويب الجهود للبحث عن وسائل الدعم الفعلية للفلسطينيين، وجعل الحرب حربا عربية/فلسطينية ضد إسرائيل، تحولت إلى مواجهات سياسية إعلامية عربية عربية، عندما انطلق مسلسل المزايدات والاتهامات والتشكيك في المواقف بين العواصم العربية بشتى الأوصاف الخيانة، التآمر، التخاذل والخذلان....وقد وجدت بعض الأنظمة ضالتها في ذلك للتهرب أمام شعوبها والفلسطينيين من المواجهة الفعلية مع العدو الحقيقي، بالتغطية بصواريخ ومدافع القصف بالبيانات والبلاغات والتصريحات والمبادرات في الاتجاه الخاطئ، حرب النيران الصديقة، حرب الرشق بالحجارة، التي تتلاعب وتعبث بالدعم الوهمي لفلسطين. فبات لكل منهم فلسطينه.
 
كلنا فلسطينيون في اللغة والخطاب، لكن على الأرض هناك الإكراهات والمصالح والأجندات القُطْرية/الوطنية، والمحافظة على الكراسي وعدم إغضاب أمريكا والحرص على استتباب الاستقرار والأمن الداخلي بالدرجة الأولى. في الحقيقة هذه الأشكال من الصراع الوهمي دلت على الفجوة عند العرب بين التضامن الظاهري، وبين التردد والتخبط في الاستعداد لاتخاذ خطوات عملية قد لا تأتي أو عندما تأتي تكون الحرب قد وضعت أوزارها، وهذا ليس بالأمر الجديد.
 
لكن في المحصلة، لا أحد كان قادرا على المساعدة الفعلية التي يحتاجها الفلسطينيون، لا الذين صرخوا وهددوا ونددوا ورفعوا الشعارات والهتافات المدوية، ولا الذين صمتوا وغضوا الطرف، ولا الذين حاولوا مهادنة إسرائيل وفتحوا معها قنوات حوار سرية للتشاور والاستلطاف لوقف الحرب، ولا الذين كانت مواقفهم متدبدبة غامضة.
 
من دون شك فإن عملية طوفان الأقصى أزعجت كثيرا الحكام العرب، ووضعت بين أيديهم مرة أخرى هذه الجمرة الحارقة التي تدعى فلسطين، وزجت بهم في مواقف جد حرجة تجاه إسرائيل وأمريكا والدول الأوربية. أصبحت قضية الشعب الفلسطيني تثقل كاهل الحكام العرب وتزيد من تفرقتهم وتشردهم بعدما كانت قضية للتضامن والدعم والمساندة والإجماع العربي، فتفرقوا من حولها بالشكل الذين لم يعد ينفع القضية الفلسطينية ولا العلاقات العربية العربية. بينما الشعوب العربية ظلت ثابتة في مواقفها وأثبتت أن القضية خالدة في الوجدان العربي، وأن إسرائيل كيان غير مرحب به مهما طال دسُّه في الجسم العربي، فسيلفظه يوما ما.
 
فكان لابد ولغاية حفظ ماء الوجه من البحث عن مخرج من الموقف الحرج الذي أقحمت فيه حركة حماس الأنظمة العربية، فبعد مرور 35 يوما على الحرب على غزة، جاءت مبادرة سعودية جد متأخرة، جرى التخطيط في البداية لعقد قمتين، أولى لدول الجامعة العربية، وبعدها قمة الدول الإسلامية.
 
وفي مبادرة ذكية، قرر ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، جمع القمتين في قمة واحدة بالرياض، ضمت دولة عربية إسلامية، ما شاء الله، كان من المفترض أن تطلع بقرارات حاسمة فعلية نافذة مؤثرة وازنة للتأثير على مجريات الصراع، باستخدام ما تمتلكه من وسائل ضغط لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، والاعتراض على الانتهاكات الجسيمة لجيش الاحتلال وإرهاب المستوطنين بالضفة الغربية والقدس.
 
وكما كان متوقعا، لم يلفت انعقاد هذه القمة الطارئة انتباه الرأي العام العربي والإسلامي والفلسطينيين،( بل وحتى الإسرائيليين والأمريكان)، معتبرين أن القمة عديمة الفائدة، فقد سبق أن عُقدت العشرات مثلها في الماضي، وكانت عرضةً لانتقادات حادة بسبب العجز العربي.
 
انعقدت القمة العربية الإسلامية الطارئة بالرياض يوم 11 نوفمبر، ولكل من القادة حساباته، فالسعودية تحاول لجم التهديد الإيراني التقليدي الذي يمكن أن يشعل حرباً إقليمية، بينما الفلسطينيون، باستثناء السلطة الفلسطينية، كانوا يمنون النفس بالدفع قدماً بهذا المسعى، لتوسيع الحرب وإشغال جيش الاحتلال بجبهات أخرى معادية. بينما إيران وكما كان منتظرا، لم تذهب بعيدا ولم ترغب في إزعاج السعودية التي انعقدت القمة تحت رعايتها، فجاءت بخطاب مليء بالتقريع لإسرائيل والولايات المتحدة، والمطالبة بمقاطعة إسرائيل وتسليح المقاومة، وفي الوقت ذاته حاولت استغلال القمة لتوظيف جهودها الدبلوماسية من أجل ترميم علاقاتها مع دول عربية بالمنطقة، بعض الدول وحفظا لماء الوجه والتبرير كانت حريصة أن لا يذهب البيان أبعد من سابقيه من بيانات التهدئة، في حين حضر البعض الآخر لإسماع صراخه وتنديداته وصولاته وكفى.
 
وفي جميع الأحوال، نجح ولي العهد السعودي، بن سلمان، ومعه قادة مصر وقطر والأردن والإمارات، في منع قرارات عملية مهمة. لا لمقاطعة إسرائيل، ولا لمنع عبور الطائرات الإسرائيلية سماء دول عربية، ولا لدعوة دول عربية وغيرها إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل. فجميع هذه المطالب لا تسعى فقط للتوفيق بين الأقطاب العربية والإسلامية فحسب، بل بين ما يمكن أن تقبله الولايات المتحدة الأمريكية، وبين المواقف المتشددة التي عرضها زعماء بعض الدول العربية.
 
خرجت القمة في النهاية بجملة من القرارات تضمنت 31 بنداً، في كل مخرجاتها كانت جيدة جدا غطت كل جوانب الصراع العربي الفلسطيني مع إسرائيل، لم تغفل شيئا من الإدانات والنداءات والرافضات والتشديدات والمطالبات والتأكيدات، الموجهة إلى إسرائيل والإدارة الأمريكية ومجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية وغيرها، لو جرى تنفيذها لقفزت بشعوب المنطقة من الجحيم إلى النعيم. لكن تلك القرارات افتقرت لآليات التنفيذ واستحضار ما تمتلكه من أسلحة وأدوات الضغط والتهديد على إسرائيل والإدارة الأمريكية.
 
الملفت للانتباه أن البيان الختامي للقمة الطارئة لم يأت على ذكر اسم عملية "طوفان الأقصى" أو حركة المقاومة حماس المعنية مباشرة بهذه الحرب، وعندما تحدث البيان عن مسألة تمثيلية الشعب الفلسطيني أكد في البند 28 على " أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وأن على جميع الفصائل والقوى الفلسطينية التوحد تحت مظلتها..."، ومعنى ذلك أن حركة حماس وحركات المقاومة الأُخرى الخارج نطاق منظمة التحرير لا تمثل الفلسطينيين. صحيح أن هذا البند ليس جديداً فقد سبق أن اتُّخذ قبل 50 عاماً، لكن في الوقت الذي تخوض حماس حرباً ضد إسرائيل، فإن هذا البند يبدو بالغ الأهمية بالنسبة لإسرائيل، لأنه يتجاهل وجود هذه الحركة الفلسطينية القوية من لدن العرب أنفسهم. ويسود الاعتقاد لدى إسرائيل أن الإطاحة بحماس ستحظى بدعم دول عربية في المنطقة، والغريب أن إسرائيل تراهن على إقحامها في الترتيبات الخطيرة التي تعتزم تنفيذها بعد الحرب، والتي تشكل تهديدا للأمن القومي العربي.
 
وعلينا أن لا نغفل أن هناك بوادر تشير إلى خيبة أمل لدى بعض الحكام العرب بالمنطقة والسلطة الوطنية الفلسطينية، من كون حركة حماس أثبتت وجودها في هذه الحرب وأظهرت صلابة وقدرة فائقة على مواجهة جيش الاحتلال بكل ترسانته العسكرية المتطورة، وأكدت أنها مشروع غير قابل للاجتثاث بتلك السهولة التي تصورتها إسرائيل.
 
خلاصة القول، إذا كان العرب بموقفهم الصامت المتراجع المتحفظ المتفرج البارد الغائب الصادم إزاء مذابح غزة، فكيف سيكون دورهم ومكانتهم في الحراك الدولي لما بعد الحرب، وقد فسحوا المجال لإسرائيل والإدارة الأمريكية للعبث بالشأن الفلسطيني عسكريا وسياسيا والانفراد بتحديد مصير غزة وسكانها والتخطيط لسيناريوهات لن تذهب، بالتأكيد، أبعد من خدمة المصلحة الإسرائيلية بالدرجة الأولى، ولا تبعث على الاطمئنان لمصير الشعب الفلسطيني بغزة أولا ثم الضفة. وبذلك يكون العرب قد قدموا أسوا نموذج للأداء والالتحام العربي بالقضية الفلسطينية زمن الشدة.
 
بالأمس هاجر العرب إلى القضية الفلسطينية واليوم هجروها.
 

    مـحـمـد بنـمـبارك/  دبـلـوماسي سابق