تتجدد العودة مرة ثانية بل ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة وإلى ما لا نهاية، لموضوع المأساة الإنسانية لضحايا الطرد التعسفي الذي نفذه حكام الجزائر صبيحة الثامن من نوفمبر 1975 بحق 45 ألف عائلة مغربية، تضم مواطنين أبرياء كانوا يعيشون بأمان واستقرار مع إخوانهم الجزائريين، في نسيج اجتماعي مترابط مندمج متداخل مفعم بالأخوة الصادقة والتعايش والترابط والتلاحم الإنساني القوي في علاقات متعددة الأشكال: (زواج، أبناء، مصاهرة، جوار، امتداد قبلي، صداقات، مصالح، عمل، سكن..)، إلى أن جاء قرار متهور اندفاعي انتقامي في حق من لا ذنب له، بالطرد بل الترحيل والتهجير في شكل أشكال الممارسات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، لا فرق بين رب أسرة، أو أم لأطفال، أو ابن أو بنت لأم أو أب، أو غيره من العلاقات الأسرية، فالتهمة والادعاء كان جاهزا "مغربي" لا غير، دون أي وازع ديني أو أخلاقي.
هذه القضية/ الترحيل بالمختصر المفيد، لم تكن نقطة نهاية بل بداية مشوار ورحلة عذاب ومأساة وأوجاع لمن شرد وانفصل عن أسرته وبيته «تمزيق عائلي» وعمله ودراسته وتجارته وممتلكاته بل وماضيه وذكرياته وأحلامه، ليرمى به في الخلاء على الحدود، هكذا بجرة قلم في صبيحة يوم عيد الأضحى، وكأن الحاكم الجزائري صاحب القرار استبدل الأضحية بضحية، بعد أن أخطأ في تفسير الآية القرآنية المنزلة على سيدنا إبراهيم عليه السلام (سورة الصافات الآيات 104 إلى 107).
لن يغفر المغاربة بل والجزائريون على حد سواء، لحكام الجزائر فعلتهم التاريخية الدنيئة «المسيرة الكحلة» وحكمهم الجائر بحق كل مواطن مغربي شملهم الطرد، كبيرا أو صغيرا رجلا أو امرأة طفلا أو شابا أو شيخا، صادفه حظه العاثر العيش ببلد شقيق جار عربي أمازيغي مسلم، اسمه الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية/ تسمية، والجمهورية العسكرية الاستبدادية واقعيا، فلو أنها فعلا كانت ديمقراطية شعبية ما كان لمثل هذا القرار الانفرادي أن يصدر دونما تفحيص وتمحيص من قبل دوائر تدبير الشأن العام، ولكن حيث الاستبداد والسلطوية والعسكر يسود، فمثل هكذا قرار منتظر صدوره بجرة قلم دون عناء ضمير أو حس بالمسؤولية، بحكم حجم وتبعات القرار وكلفته السياسية والإنسانية والتاريخية.
كان نونبر 1975 شهرا أبيضا ناصعا في تاريخ المغرب، حيث كان الشعب المغربي وعاهله يعيشون فرحة استرجاع الأقاليم الجنوبية، بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بلاهاي وبعد إعلان المغفور له الحسن الثاني عن قراره بتنظيم المسيرة الخضراء يوم السادس من نوفمبر، ودعوة 350 ألف مغربي لتخطي الحواجز الحدودية للاستعمار الاسباني واسترجاع جزء من التراب الوطني بالصحراء سلميا، لكن نوفمبر آخر كان يصنع بالجزائر، لونه أسود، حين عزم الرئيس الراحل هواري بومدين أن يُسود أو يُلطخ وجهـه أمـام التـاريخ، بمـا رأى فيـه محاولة لعرقلة خطة الملك الحسن الثاني في انطلاق المسيرة الخضراء ب «المسيرة الكحلة» بطرد مواطنين مغاربة أبرياء من الجزائر، سَوّد بها أيضا سماء العلاقات المغربية الجزائرية وحكم على هذه العلاقات وعلى المنطقة المغاربية برمتها بالصراع والخصام والمعارك لما يقرب من 50 عاما، هكذا فعل زرع لغما ورحل ليخلفه جيل من الجنرالات حكموا الجزائر منهم من سار ومنهم من أُرغِم على السير على نهجه حتى اليوم.
هذا اليوم الذي أريد له أن يظل أسودا مع حلول نوفمبر من كل عام، فالذاكرة يستعصي عليها النسيان وستظل تعاني من غياب عودة الحق لأصحاب، إلى أن تتحقق عدالة السماء والأرض بحق حكام جزائر رحلوا يحملون معهم جرمهم البشع، وحكام حاليين لازالوا يتنكرون ويتجاهلون ما اقترفته بلادهم ومن حكمها بالأمس من مأساة ظلت عالقة كبصمة ملوثة في جبين الجزائر التي تتملص من فظاعة جرمها، وجرح يدمي قلوب مغاربة الجزائر خاصة والمغاربة قاطبة، إننا نعيش كأننا نتذكر، ونتذكر كأننا نعيش، نعيش مع الماضي في ظل الحاضر بآلامه وحسراته وشجونه، فالذاكرة قعر بلا نهاية والمأساة كابوس حاضر إلى ما لانهاية.
فمن هو قادر على حجب هذه الذاكرة المغربية ويمنعها من ترديد صراخها ومطالبها بالإنصاف والاعتراف والاعتذار، يعتقد حكام الجزائر أن ملفا ملوثا صنعوه بأيديهم محاه التاريخ ولم يتركوا للأجيال الحاضرة من أثر أو ذكرى، فساد لديهم نوع من التوهم المَرَضي بالنسيان والإفلات من العدالة والإنصاف، وكأنهم أكبر من التاريخ، من هذا الكائن المنصف الحقاني الشاهد المُوَثق الواثق الموثوق، فوصمة عار نوفمبر 75 ليست ماضيا بل هي حاضر بعنوان عريض مفتوح على كل الجبهات سياسيا قانونيا قضائيا إنسانيا أخلاقيا وحقوقيا، فهناك جيل جديد من الأبناء والأحفاد البررة الأوفياء حمل معه رسالة ووصية الآباء «يا بني أوصيك....» وضعها على عاتقه كمسؤولية جسيمة لكي يواصل نضاله لرفع صوت الحق في وجه الظلم والقهر والغطرسة والحماقة الجزائرية المستمرة بين الأمس واليوم.
لم تحسن الجزائر تقدير الأبعاد الإنسانية التي ستأخذها هذه القضية العادلة، ففي مثل هذه المناسبة من كل عام ومنذ بزوغ فجر الثامن من نوفمبر ، يتدفق لدى ضحايا الطرد سيل عارم، سيل من يعانون من عاهة نفسية، سيل من يطالبونها بالإنصاف والاعتذار واستعادة الحقوق والتصالح مع الماضي، عله يغفر لحكامها الأحياء منهم والأموات.
يجب الاعتراف بأن القضية بخلفياتها وتداعياتها وتركيبتها لا تحظى بقسط وافر من الاهتمام على الصعيد الوطني رسميا / دبلوماسيا أو حزبيا أو مجتمعا مدنيا أو حتى إعلاميا، لكن من حسن حظ هذه القضية أن هناك جيلا من الكفاءات والأطر من أبناء العائلات المطرودة، أخذ مبكرا على عاتقه هذه القضية فأسس لها وصان ذاكرتها وسعى لتوثيقها قدر المستطاع، وحافظ على رموزها وضحاياها وسجل أطوارها وخرج بها إلى خارج الحدود متجولا بها عبر عدة عواصم ومنابر دولية تعنى بهذا الصنف من القضايا الحقوقية والإنسانية، فوضع أمامنا اليوم سجلا غنيا وأرشيفا موثقا حافلا بكل التفاصيل الدقيقة للملف، بشكل يزعج الجلاد ويُطمئن الضحية.
فلا خيار للضحايا سوى صياغة بداية جديدة، في كل مناسبة، تليق بالموتى والأحياء منهم والحفاظ على حالة الانتفاض ضد الغاشم من أجل بقاء القضية حاضرة ملتهبة مستعصية على الكتمان قاهرة للنسيان، فالجميع على موعد مع الحساب والمحاسبة الذي أعتقد أنه تحول أو سيتحول عبئا ثقيلا على حكام الجزائر.
بالرغم من المسافات البعيدة التي تفصلنا عن نوفمبر 1975، والتي تحملنا على التكرار لأن المسالة تستحق أن تثار وبصرخة مدوية بالنظر إلى الضرر الجسيم الذي خلفه النظام الجزائري في حق مغاربة استقروا بالجزائر دافعوا عنها تضامنوا مع شعبها أوقات المحنة تقاسموا معهم آلام وتنكيل المستعمر الفرنسي ذهب منهم شهداء في معركة التحرير، لكن لم يشفع لهم هذا الرصيد.
الموقف اليوم يتطلب تعبئة وطنية ودولية، للدفاع عن ضحايا هذا الجرم الجزائري، وكشف الوجه البشع لهذا النظام والمطالبة دوليا بإنصاف ذوي الحقوق والاهتمام بملفهم، الحوار مع الجزائر لا يُجْد نفعا على كل المستويات، لذلك يتطلب الموقف من حاملي لواء هذا الملف مواصلة الكفاح بممارسة ضغط متزايد وطرح المعضلة الإنسانية بمزيد من الإلحاح دفاعا عن أناس إذا كانت الأحداث والوقائع قد أنهكتهم، فإن الصبر لم ينهكهم الصبر والإصرار والإرادة والعزيمة تظل فرصتهم الأخيرة، التي تقض بها مضجع حكام الجزائر
وفي سياق متصل، وبغية تسليط مزيد من الضوء على هذا الملف المعلق، انعقدت عصر يوم 11 دجنبر الجاري، بمقر أرشيف المغرب بالرباط، ندوة “حفظ ذاكرة مغاربة الجزائر”، نظمها التجمع الدولي لدعم العائلات ذات الأصل المغربي المطرودة من الجزائر بالتعاون مع مجلس الجالية المغربية في الخارج والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، قدمت خلالها عروض ومداخلات لممثلي هذه التنظيمات إضافة إلى أساتذة وطلبة باحثين.
وفي سياق متصل، وبغية تسليط مزيد من الضوء على هذا الملف المعلق، انعقدت عصر يوم 11 دجنبر الجاري، بمقر أرشيف المغرب بالرباط، ندوة “حفظ ذاكرة مغاربة الجزائر”، نظمها التجمع الدولي لدعم العائلات ذات الأصل المغربي المطرودة من الجزائر بالتعاون مع مجلس الجالية المغربية في الخارج والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، قدمت خلالها عروض ومداخلات لممثلي هذه التنظيمات إضافة إلى أساتذة وطلبة باحثين.
وهي مناسبة تم الكشف فيها عن تجميع 16 ألف كلغم من الورق، كجزء من أرشيف هذا الملف، سلمت إلى مدير أرشيف المغرب، وقد أجمعت المداخلات على أن هذه القضية تستحق بالغ الرعاية والاهتمام والالتفات إليها من قبل كل له صلة بتدبير هذا الملف: سلطات، أحزاب، نقابات، مجتمع مدني، إعلام وكذلك الجامعات للبحث الأكاديمي الجدي والعميق في قضية حيف وجور طالت مغاربة الجزائر بعدما ساد الصمت لسنوات طوال الذي كاد يهمش الموضوع ويقلل من شأنه ويضعه على الرف.
غير أن الندوة لفتت النظر إلى جوانب القصور التي تعتري تدبير هذا الملف والصعوبات التي تعترض المشرفين على مواصلة الدفاع عن قضية من تنظيمات وأشخاص من أبناء وأحفاد العائلات المشمولة بالترحيل ومهتمين وتوحيد جهودهم، وقد تم التركيز أيضا على أهمية التوثيق وجمع المعلومات والمعطيات والأوراق الإدارية والمراسلات والقصاصات الصحفية التي تناولت هذه الفاجعة في حينه، كما تمت الإشارة إلى ضرورة العمل المتواصل لتحسيس الرأي العام الوطني والدولي بهذه القضية التي خرق في حكام الجزائر قواعد حسن الجوار والقانون الدولي والقانون الإنساني، والتأكيد على أننا أمام ملف حقوقي بامتياز، تتحمل فيه الدولة الجزائرية وحدها المسؤولية التي لم تعترف لحد الآن بجريمتها.
محمد بنمبارك/ دبلوماسي سـابق