السبت 27 يوليو 2024
كتاب الرأي

يوسف بونوال: مشروع قانون المالية 2024 واللاءات الثلاثة

يوسف بونوال: مشروع قانون المالية 2024 واللاءات الثلاثة يوسف بونوال
قد يصعب القيام بتحليل لموضوع مهم كمشروع قانون المالية لسنة 2024 الذي أثار كثيرا من النقاش ومن النقاش المضاد، دون الوقوع في الإسقاطات الشخصية أو الذاتية المرتبطة بالانتماء الحزبي أو بالمتوقع الإيديولوجي. سأحاول جاهدا أن أتكلم هنا بلغة التقني الخبير في الاقتصادي التطبيقي الذي يعتمد على الملاحظة وعلى تحليل المعطيات والأرقام بمنهجية علمية ومحاسباتية لمعرفة مدى أجرأتها وتنزيلها والآثار الاقتصادية والاجتماعية على المغاربة في معيشهم اليومي من مأكل ومشرب ومسكن وتطبيب وتعليم... أهداف تهم الشريحة الكبرى من المغاربة في بلد صنف في المرتبة 123 عالميا في مؤشر التنمية البشرية لسنة 2021/2022 الصادر عن الأمم المتحدة من أصل 191 دولة.
حسب دباجة التوجهات العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2024، تم التركيز على محاور أربعة أساسية. أولا تنزيل برنامج إعادة البناء والتأهيل العام للمناطق التي تضررت من جراء زلزال الحوز وخصوصا على مستوى الآثار الإجتماعية والإقتصادية للساكنة المنكوبة. ثانيا، تنزيل الورش الملكي للحماية الاجتماعية. ثم إصلاح منظومة العدالة لتعزيز دولة الحق والقانون وأخيرا الالتزام الهيكلي المرتبط بضمان التوازنات الماكروإقتصادية عبر توازن المالية العمومية.
أهداف نبيلة في نواياها، خصوصا وأنها ترتكز أساسا على مفهوم الدولة الاجتماعية والتي نجدها حاضرة بشكل قوي في كل الخطابات الملكية الأخيرة. إلتزام قوي يستلزم توفير مالية قوية ومهمة دون اللجوء إلى مزيد من التضريب أو الزيادة من الضغط الجبائي الذي يثقل مالية الأسر المثقلة أصلا بسبب ارتفاع التضخم والأسعار. وكذلك دون اللجوء إلى الاقتراض الذي يرهن الأجيال القادمة من خلال تخصيص نسبة مهمة من الميزانية لأداء فوائد وعمولات الدين.
قراءتي لمشروع قانون المالية لسنة 2024 تجعلني أشعر بغير الارتياح وخصوصا أن الفرضيات التي بني عليها قد تكون غير صحيحة وخاطئة بلغة الاقتصاديين. السبب وجود تصور بفرضيات جد تفاؤلية لا تعكس الواقع الحقيقي للاقتصاد المغربي ونحن مازلنا ندبر آثار ما بعد جائحة.
مشروع قانون المالية لسنة 2024 يرتكز على مجموعة من الفرضيات تحدد نسبة النمو في 3.7% وعجز الميزانية في حدود 4% من الناتج الداخلي الخام وموسم فلاحي بـإنتاج 75 مليون قنطار ومعدل تضخم في 2.5 %.
توقعات صعبة المنال لأسباب متعددة. على سبيل المثال التدابير المقترحة في موضوع الزيادة في الضريبة على القيمة المضافة لبعض المنتوجات والخدمات، والتي لا يمكن أن ترقى إلى مرتبة "الإصلاح الضريبي"، سيكون لها انعكاس مباشر على القدرة الشرائية أي ارتفاع نسبة التضخم مما سيحد من الاستهلاك الضروري لتحقيق النمو الاقتصادي من خلال تشجيع الإنتاج. كما أن التركيبة الأساسية للميزانية تعتمد على المداخيل الضريبية وعلى الاقتراض والموجهة أساسا لمصاريف التسيير. عوامل غير محفزة لضمان إقلاع اقتصادي متين واستدامة للمالية العمومية اللازمة لتنزيل مختلف الأوراش والإصلاحات.
على المستوى الدولي، فإن معدل النمو للاقتصاد العالمي يتوقع ألا يتجاوز 3% خلال سنتي 2023 و2024 توالياً في ظل سياق يتميز باستمرار الضغوطات التضخمية والتوترات الجيوسياسية. كما أن دول منطقة اليورو، الشريك الاقتصادي الرئيسي للمغرب، ستعرف نموا محتشما في حدود 0،7% خلال سنة 2023، ويتوقع ألا يتعدى 1،2% خلال سنة 2024.
مشروع قانون المالية لسنة 2024 هو مشروع صيغ بأرقام طموحة وحسب تصريح الحكومة فهذا المشروع "خيار سياسي كبير في تاريخ هذه الأمة لكونه يطبق حرفيا توجيهات الملك في وضع الأسرة" في محور كل السياسيات العمومية.
بحس تسوده المواطنة والمصلحة العامة والرغبة في جعل بلادنا تحقق ثورة اجتماعية، أتمنى ألا يخلف هذا المشروع موعده مع الحكومة في تحقيق هاته الأهداف النبيلة في نياتها والتي لا يمكن أن يختلف إثنان على أهميتها. على الرغم من وجود النوايا الحسنة لهاته الحكومة والتي لا تكفي، غير أن تخوفي من مدى تجسيدها على أرض الواقع يجعلني أرفع شعار اللاءات الثلاثة التالية:
1- لا لبرنامج اجتماعي بدون ضمان استدامة التمويل
2- لا للزيادة في الضرائب لأن "كثرة الضريبة تقتل الضريبة"
3- لا لضرب القدرة الشرائية للمواطن بحجة إصلاح المقاصة
لا لبرنامج اجتماعي بدون ضمان استدامة التمويل
البرامج ذات الحمولة الاجتماعية تتميز بضرورة تنزيلها بشكل هيكلي لا يخضع للظرفية الآنية مما يحتم توفير شروط وآليات تمويلية بشكل مستديم وعلى المدى المتوسط والبعيد. ميزانية عمومية ترتكز أساسا على الضريبة تثقل القدرة الاستهلاكية للأسر وتفرمل القوة الإنتاجية للمقاولات مما يؤثر سلبا على الاستثمار وعلى توفير فرص الشغل.
من خلال معطيات مشروع قانون المالية لسنة 2024 فقد قدرت تحملات الدولة ب 638 مليار درهم بزيادة بلغت 6,30% مقارنة مع السنة المالية 2023. وتتوزع هاته التحملات المتوقعة بين 436 مليار درهم للميزانية العامة و138 مليار درهم للحسابات الخصوصية للخزينة و 2 مليار درهم لمرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة في حين بلغت تكلفة استهلاك الدين العمومي 62 مليار درهم. فيما يخص الموارد المتوقعة، فمشروع قانون المالية حدد هاته المداخيل بنحو 576 مليار درهم مقابل 536 مليار درهم سنة 2023 مع إرتفاع بلغ 7,11%. إرتفاع الإيرادات مقارنة مع النفقات لسنتي 2023 و2024 يعكس تفاقما في عجز الميزانية والذي بلغ 4% وهذا مؤشر سلبي في قراءة الميزانية كون العجز يشكل عائقا للاستثمار مما يضعف من نسبة النمو وخصوصا خلق فرص الشغل عبر الاستثمار العمومي.
تم تخصيص مبلغ 120 مليار درهم على مدى 5 سنوات لبرنامج إعادة تأهيل المناطق المنكوبة لزلزال الحوز. ولتنزيل الورش الملكي للحماية الاجتماعية فقد رصد غلاف مالي في حدود 25 مليار درهم. كما أن قطاع التعليم فقد ارتفعت ميزانيته بنسبة 9.4% مقارنة مع سنة 2023 ليصل إلى 75.5 مليار درهم. قطاع الصحة والحماية الاجتماعية سيستفيد من دعم إضافي يبلغ 2.6 مليار درهم، لتبلغ الميزانية الإجمالية المخصصة للقطاع في إطار مشروع قانون المالية الجديد ما يناهز 31 مليار درهم.
بنية تحملات الدولة لم تسجل تغييرا وذلك مند عقود حيث أن نسبة نفقات التسيير تستحوذ على الحيز الأكبر من الميزانية فقد قدرت في مشروع مالية 2024 بنسبة 64% في حين أن نسبة الاستثمار لم تفق نسبة 27%.
ميزانية الدولة تتشكل أساسا من المداخيل الضريبية وخصوصا الضرائب الغير المباشرة التي تحتل المرتبة الأولى في موارد ميزانية الدولة حيث قدرت ب 128 مليار درهم أي بنسبة 41%. كما تعلمون فالضرائب الغير المباشرة لا تخضع لمنطق "المساهمة حسب الاستطاعة" المنصوص عليه في الفصل 40 من دستور المملكة لسنة 2011 مما يجعلها سببا في خلق حيف ضريبي وغير منصف للفئة الاجتماعية ذات الدخل الضعيف والمتوسط.
مشروع قانون المالية رفع شعار الدولة الاجتماعية مع اتخاذ تدابير جبائية شعارها الحد التدريجي من دعم المواد الاستهلاكية المكلفة لصندوق المقاصة، من خلال رفع الضريبة على القيمة المضافة لبعض المواد الأساسية كالماء وتطهير السائل والسكر المصفى والنقل المسافرين والبضائع. السلم الاجتماعي يحتاج الى دعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة عبر آليات تمويلية على المدى المتوسط والبعيد وهذا الشرط يغيب تمامًا في مشروع قانون المالية. لا نجد ولو بالإشارة إلى توفير مداخيل قارة ومستديمة من قبل القطاعات الاقتصادية الحيوية والتي تعرف مردودية مهمة كالمؤسسات المالية من أبناك وشركات للتأمين وكشركات الاتصالات والمحروقات في إطار ما يسمى بالتضامن المنصوص عليه دستوريا حيث يجب على الجميع أن يتحمل بشكل تضامني، وبشكلٍ يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، في تكاليف تنمية البلاد.
توفير الآليات التمويلية ذات الطابع المستديم للبرنامج الاجتماعي للحكومة يبقى غائبا في مشروع قانون المالية لسنة 2024.
لا للزيادة في الضرائب لأن "كثرة الضريبة تقتل الضريبة"
الاعتماد بشكل قوي على المداخيل الضريبية وخصوصًا تلك التي يؤديها المستهلك النهائي يضعف من مناعة المالية العمومية حيث أنه كلما كانت نسبة النمو ضعيفة والقدرة الشرائية منهكة بضغط التضخم كلما كانت نسبة الاستهلاك متدنية. النتيجة الحتمية هي فرملة الإنتاج مما يضعف من المحاصيل الضريبية. كما أن الزيادة في الضريبة بشكل غير عادل قد يؤدي إلى بروز ردود فعل على مستوى الاستهلاك والإدخار تؤثر بشكل سلبي على معدلات النمو.
عنوان مشروع قانون المالية لسنة 2024 هو "الإصلاح الضريبي"، وخصوصا على مستوى الضريبة على القيمة المضافة، غير أن الملاحظ هو أننا لا يمكن لنا أن نتكلم عن إصلاح بمعنى الكلمة. الإصلاح بمفهومه الشامل يستلزم وضع استراتيجية شمولية للسياسة الجبائية مع توضيح الأهداف العامة والخاصة على المدى المتوسط والبعيد وتحديد كيفية تجاوز تحديات التنزيل وقياس هامش الخطأ مع تبريره. التدابير الضريبية الجديدة المزمع تطبيقها خلال ثلاث السنوات القادمة لا تخضع إلى هاته المنهجية. نتكلم إذا عن تدابير وإجراءات ضريبية في حيز ضيق ومع فئة اجتماعية محددة بعينها لا تصل إلى مرتبة الإصلاح الضريبي الشامل.
هناك مبدأ مهم عند فقهاء الاقتصادي وهو مبدأ "كثرة الضريبة تقتل الضريبة".
للأسف هذا المبدأ قد ينطبق على هذا القانون حيث وضعت الحكومة مجموعة من التدابير الجديدة في كيفية استخلاص الضريبة على القيمة المضافة من المنبع مما سيخلق جدلا واسعا وسط الفاعلين الاقتصاديين حيث التخوف أصبح سائدا. نحن مع كل سياسة جبائية تحد من التهرب الضريبي ومن الغش الضريبي لكن ليس على حساب الفاعل الاقتصادي المنتج للثروة. على الحكومة أن تبدع وأن تبتكر آليات للمراقبة القبلية والبعدية دون ممارسة ضغوط على المقاولات مما يجعل الكثير يلجأ الى القطاع الغير المهيكل. وهذا في حد ذاته يعتبر ردة في تنمية الاقتصادي المغربي عبر الإدماج التدريجي للقطاع الغير المهيكل في القطاع المنتج والخاضع للضريبة.
الاقتصاد المغربي مازال يعيش آثار الجائحة وتلك المرتبطة بالموسم الفلاحي المتواضع إضافة الى الارتفاع المهول لأسعار المواد الأولية الضرورية للإنتاج. الحكومة من خلال مسودة مشروع قانون المالية لسنة 2024 لم تعط إشارات إيجابية ومطمئنة للتجار والصناع والحرفيين والمقاولات من خلال إقرار تحفيزات وتشجيعات ضريبية وغير ضريبية للحد من الأزمة وللاستعداد لتجاوزها. بلغ عدد المقاولات التي أعلنت إفلاسها أكثر من 12000 وهذا رقم مخيف لم يستطع أن يحرك ساكن الحكومة بكل كفاءاتها التكنوقراطية.
لا لضرب القدرة الشرائية للمواطن بحجة إصلاح المقاصة
إصلاح المقاصة شعار تم رفعه منذ مجيء حكومة 2011. أيْ نعم أن التوجيه السليم والصحيح والعادل للدعم هو مطلب الجميع غير أن الملاحظ أن الحكومة لجأت الى الحلول السهلة. رفع الدعم عن غاز البيتان "البوطا" لكي تصل تدريجيًا الى ثمنها الحقيقي 140 درهم وهذا حسب التصريح الغير الواضح للحكومة قد يشكل تطبيعًا تدريجيًا مع سحق الطبقات الاجتماعية الهشة والفقيرة وحتى تلك ذات الدخل المتوسط لن تسلم من لسعات ارتفاع تكلفة العيش. قد يقول قائل إن الحكومة ستعمل على فلسفة الدعم المباشر. الدعم المباشر للأسر المستهدفة هو برنامج ملكي هدفه الأسمى تقليص الفوارق الاجتماعية تجسيدا لمفهوم حق المواطنة ومبدأ الدولة الاجتماعية. نبل هذا الهدف يجعل التنزيل خارج الحسابات السياسية لأية حكومة مع شريطة توفير كل شروط النجاح لأن فشل التنزيل وإخفاقه ولو جزئيا ستكون له انعكاسات قوية في معدل الثقة وهذا ما لا نتمناه. للأسف الحكومة لم تعط إشارات مطمئنة في هذا السياق حتى نظمن الانخراط الكلي وخصوصا أن من مصادر تمويل هذا الدعم المساهمات التضامنية على الأرباح الدخول الخاصة بالمقاولات. السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا عملنا لهاته المقاولة حتى نضمن استدامة مردوديتها وبقائها؟
أبجديات تطبيق أية سياسة عمومية يسبقها نقاش عمومي مع تقديم دراسات علمية للآثار المالية والاجتماعية والاقتصادية الهدف منها معرفة هل هناك تكلفة اجتماعية وهل هناك قابلية للتعايش مع هاته الآثار. الكل يجمع على أن الزيادات في الضريبة على القيمة المضافة سيكون له أثر آني ومباشر على المستهلك في غياب ارتفاع المدخول وانخفاض الأثمان خصوصا أن مؤشرات التضخم تتجه نحو الضغط على القدرة الشرائية للمواطن. تتجه الحكومة إلى الزيادة في التكلفة الضريبية على بعض المنتجات التي تدخل في الاستهلاك اليومي لجل المغاربة كالشاي الأخضر عبر إقرار زيادة في الرسوم الجمركية للاستيراد والزيادة في مقدار الضريبة الداخلية على الاستهلاك. خدمات الماء والكهرباء وتطهير السائل لم تسلم من هاته الزيادات. أصبحنا نشك في نوايا هاته الحكومة التي لجأت إلى "الحيط القصير" وهو المواطن البسيط الذي سيكون مضطرا إلى تحمل زيادات في ثمن المنتوجات الأساسية.
نجاح الدولة الاجتماعية في المغرب مطمح يسعى إلى تحقيقه كل المغاربة. هدف يتطلب توفر إرادة قوية لكل الفاعلين السياسيين وخصوصا أنه يندرج في سياق رؤية ملكية ذات بعد إستراتيجي. التنزيل الفعلي لمبدأ الدولة الاجتماعية يمر عبر ضمان الحقوق لكل مواطن من خلال الحق في الرعاية الصحية وفي تعليم بجودة عالية وفي اقتصاد يضمن العدالة الاجتماعية. وذلك عبر حماية القدرة الشرائية للمواطنين من الارتفاع الغير المبرر للأسعار، كالمحروقات مثلا، وتوفير المناخ القانوني للمقاولات الكفيل للتشجيع على خلق الثروة وتوزيعها بشكل عادل. قانون المالية من الآليات التي يجب أن تعكس هذا التصور باعتباره وثيقة مالية تحدد الخطوط المهمة للسياسات العمومية على مستويات التوازنات الاقتصادية والتوجهات الرئيسية للمشاريع التنموية. للأسف، وأتمنى أن أكون خاطئا، محتوى مشروع قانون المالية لحكومة أخنوش لسنة 2024، لا يرقى إلى طموحات وتحديات تنزيل برامج الدولة الاجتماعية.
 

يوسف بونوال، دكتور في الاقتصاد التطبيقي

عضو المجلس الوطني لحزب الحركة الشعبية