هل هناك بالفعل علاقة عضوية بين المال والسلطة؟ وهل "الزواج" بينهما هو المصدر المادي، حاليا، لأي سلطة ممكنة في بلادنا؟ وبتعبير آخر، هل السلطة مشروطة بالمال، خاصة أن «السوق»، بما فيها السوق السياسية أو الرياضية، تتكئ على قيمة اقتصادية، ذلك أن السوق لا تعرف قوانين أخرى غير قوانين السوق؟
إن ما نعاينه حاليا من «تورط» لزعماء سياسيين طارئين على الحقل السياسي في قضايا فساد كبرى، ومعهم مدبرين رياضيين وأثرياء جدد ومسؤولين وبرلمانيين ورؤساء جماعات ترابية هبطوا في السنوات الأخيرة بالمظلات على الشأن العام بعدما كانوا في عداد النكرات، يؤكد أن بطل المجتمع الاقتصادي لا يوقفه شيء ما دام هذا «البطل» هو المعيار والمثال لـ «الربح الانتخابي»، خاصة عندما يصبح أساس المعنى هو السلعة حتى لو كان مضمونها سياسيا أو رياضيا.
ليس هذا كلاما للاستهلاك العمومي. والدليل على ذلك هو إقدام الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، خلال الأسبوع الماضي، ولمرتين متتاليتين، على استدعاء رئيس الوداد البيضاوي، والقيادي في حزب «البام» ورئيس مجلس أكبر عمالة بالمغرب، سعيد الناصيري، للتحقيق معه على خلفية الاتهامات التي ولجها له بارون المخدرات «الحاج ابراهيم الملقب بـ "المالي") الموجود حاليا رهن الاعتقال بسجن الجديدة.
وليست هذه الفضيحة معزولة إذا أضف إلىها فضائح مسؤول شهير آخر، ويتعلق الأمر بـمحمد بودريقة، عضو مكتب مجلس النواب ورئيس نادي الرجاء الرياضي ورئيس مقاطعة مرس السلطان «حزب التجمع»، الذي تورط في ركام من الفضائح المدوية، لعل آخرها توقيفه، خلال دجنبر 2022، للتحقيق معه في تهم خطيرة تتعلق بالإخلال بالأمن العام، على خلفية شكاية لوالي جهة الرباط سلا القنيطرة محمد اليعقوبي يتهمه بتجييش الجماهير الرجاوية وتحريضهم على اقتحام ملعب مولاي عبد الله بالرباط، ناهيك عن تردد اسمه في فضيحة بيع التذاكر بمونديال قطر.
ومن العجائب الأخرى التي يتابعها الرأي العام الوطني بألم في القلب والدماغ سيرة الملياردير هشام أيت منا، رئيس شباب المحمدية ورئيس بلدية المحمدية.
ومن العجائب الأخرى التي يتابعها الرأي العام الوطني بألم في القلب والدماغ سيرة الملياردير هشام أيت منا، رئيس شباب المحمدية ورئيس بلدية المحمدية.
ولا تكاد هذه العينة من المسؤولين تخرج من فضيحة أخلاقية وقانونية حتى تدخل في الأخرى، مثلما وقع مع رئيس فريق أولمبيك آسفي والبرلماني «حزب التجمع»، محمد الحيداوي، الذي توبع في في ملف ما يعرف بتذاكر مونديال قطر، حيث أدانته المحكمة الابتدائية الزجرية بعين السبع، في غشت الماضي، بسنة ونصف حبسا نافذا وغرامة قدرها 2000 درهم. وذلك في انتظار سقوط رؤوس رياضية وسياسية أخرى من العيار الثقيل ذكرت في مجموعة من أشرطة الفيديو، والتي من المرجح تورطها في الملف نفسه «ما يعرف إعلاميا بملف البؤساء»، مما يبرهن على أن كثافة الفساد أصبحت تمارس تدميرا متعددا للسلطة يصعب إصلاحه، حيث يمكن البرهنة حاليا على أن هذا الرباط المقدس بين المال والرياضة والسلطة ليس رد فعل طارئ على الفراغ السياسي الذي تركه ضمور وتراجع الأحزاب السياسية الوطنية. فالتكون السلبي للسياسة كما تمارس على يد لوبيات المال والعقار والرياضة يحمل على القول إن السلطة تحتقر كل ما لا يخضع إلى المال، وكنا إلى عهد قريب نحافظ على «الامتياز النضالي» في التعامل مع النخبة السياسية، وإلا من أي سقط علينا هؤلاء «الفضائحيون»؟ وهل يمكن قياس وجودهم السياسي بتاريخ زعماء مناضلين كعبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة وعبد الرحمن اليوسفي وعمر بنجلون وعلي بعتة وعزيز بلال وخالد الناصري وبنسعيد أيت يدر.. إلخ؟ هل يمكن قياس العقل السياسي الناضج بعقول تربت على تنمية الرصيد البنكي بالتلاعب والنصب والتواصل الإشهاري؟
لقد كشفت هذه الفضائح أن المال خلق فضاء مناسبا للفساد، وأنه العامل الأساسي الآن في ممارسة السياسة والوصول إلى مصادر القرار، وإلا ما معنى هذا التواتر في الفضائح التي ترتبط بالتلاعب في الميزانيات والمباريات وفي عقود اللاعبين، بل في مستقبلهم الرياضي، بل ترتبط أساسا باستغلال ما يتيحه المنصب السياسي من سلطة مالية للانقضاض على الفرق الرياضية واستعمالها لأغراض انتخابية واضحة، حتى أصبح زحف المنتخبين والسياسيين على الفرق الرياضية «ضرورة» لا يستقيم زواج المال والسلطة إلا بها.
لقد أصبحنا أمام حالة من «الاحتلال المالي» يتلازم مع تحولات السلطة، مما يؤكد أن السياسية، في معناها النبيل، تعيش أزمة مركبة، وأن الانتساب إليها الآن محفوف بالكثير من الالتباس بين النضال السياسي وبين التعددية السياسية المكذوب عليها. ذلك أن الجسد السياسي لم يعد خاضعا للتطور الطبيعي لبناء الزعامات، بل يخضع علانية لمنطق المال. ومن هنا نلاحظ أن التأكيد لا يقع، في الممارسة السياسية الحالية، على الأسس الديمقراطية الثابتة أو على الإيديولوجيات المتصارعة، بل نلاحظ انهيارا حرا للقيم الأخلاقية الضامنة للديمقراطية، لأن الثابت في هذه الممارسة هو أن «الصندوق المالي» هو الذي يخاطب الجمهور لبناء «إخلاص جازم» تؤكده صناديق الاقتراع، سواء أتعلق الأمر بالاستحقاقات الانتخابية أو الحزبية أو الرياضية، بينما تدخل الديمقراطية في حيز «الكحوليات».
اتضح جليا الآن الفساد الرياضي بعتبر مؤشرا كبيرا على طبيعة النخبة الرياضية التي غزت الأندية الرياضية ومؤسساتها، حتى وهي تتفاخر بمصدرها المالي والحزبي، حيث أصبحت الموارد المالية فى الجامعة والأندية تخضع لمزاج أشخاص، يتصرفون فيها دون أي رقيب أو حسيب، مما يشير إلى أننا أمام نظام حزبي يشجع على السطو على الأندية الرياضية من أجل الوصول إلى السلطة، وإلا ما السر في تورط أسماء تنتمي إلى التحالف الثلاثي الأغلبي في الفساد الرياضي؟ ألا يمكن النظر إلى ذلك كاستغلال للنفوذ الحزبي «السياسي» من أجل الاستئثار بالمنافع المالية دون الخضوع لمبدأ التنافس الديمقراطي الحر؟
لقد كشفت الهيئة الوطنية للنزاهة والشفافية والوقاية من الرشوة أن تراجع المغرب في مؤشر مدركات الفساد يرتبط بعوامل عدة، وعلى رأسها استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية، حيث أشارت إلى أنه بعد التراجع الكبير الذي سجله معيار استغلال مسؤولي السلطة التنفيذية للنفوذ لتحقيق مكاسب شخصية بين سنوات 2016 و 2019، عاد المعيار للارتفاع ولو بشكل بطيء منذ سنة 2019، حيث انتقل التنقيط من 47 إلى 49 سنة 2021، كما أن الترتيب كذلك عرف تراجعا كبيرا بين 2015 و2021 و2022.
ولهذا ليس من الغريب أن الطاشرونات ورجال المال والأعمال ذوو المصدر المشبوه للثروة، الذي ترسخت عقيدتهم على حب الثروة وإدامتها وتنميتها بقدر لا نهائي، هم الذين أصبحوا ينشدون السلطة لحماية استثماراتهم وتوسيعها ومنع إلحاق الضرر بها؛ ولا ينشدونها إلا من باب الحصول على خزان انتخابي جماهري يتيح لهم البقاء في السلطة، كما يتيح له بناء امتيازات قد تسمح له بصياغة القوانين والتشريعات، وتوجيهها بما يخدم مصالحه.
إن نجاح «زواج» المال والرياضة والسلطة هو الذي يخلق البيئة المثالية للفساد وخلق المافيات، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: لماذا اختارت الأحزاب السياسة بمختلف توجهاتها، يمينا ويسارا ووسطا، الصمت أمام هذا «التشوه» السياسي؟ لماذا تسارع في كل محطة انتخابية إلى الاقتتال من أجل منح التزكية لأصحاب المال المشبوهين؟ لماذا أصبح المال المشبوه هو ورقة المرور إلى البرلمان أو الجماعات الترابية أو الغرف المهنية؟ لماذا تقترن الممارسة السياسية حاليا بالقدرة على التغلغل إلى الأندية الرياضية؟ وما السر في «حياد» الدولة أمام اكتساح «الطاشرونات» و»زعماء الأندية الرياضية» على حساب رجال السياسة الذين يحملون تصورات متقدمة لإدارة البلاد، استنادا إلى مبدأ اقتران المسؤولية بالمحاسبة؟ لماذا تراجع تأثير رجل السياسة «الذي تدرج في العمل الحزبي والحامل لتصورات وبرامج وانشغالات» على القرار العمومي؟
إن الفضائح التي أصبحنا نتابعها يوميا، دون أي رادع، تشير إلى اتساع وعمق أزمة الفساد في المغرب وخطورتها، كما تشير إلى أن السياسات التي رسمت للحد من الفساد ومكافحته يعتريها خلل في التطبيق وقصور في التنفيذ، وإلا ما معنى الإفلات من العقاب وحفظ الملفات، وفي أفضل الحالات الغرامات والحبس موقوف التنفيذ؟
لا شك أن معالجة الفساد المالي أو السياسي أو الرياضي لا تحتاج إلى «تسوية رضائية»، ولا إلى «ترتيبات الظل»، ولا إلى تجميد المتابعات والرهان على النسيان، ولا إلى تشديد الرقابة على المعلومات التي يمكنها أن تتسرب إلى وسائل الإعلام. الأمر يحتاج إلى بيئة قانونية صلبة، كما إلى منظومة أخلاقية وتربوية وقانونية وسياسية تجرّم كل الممارسات التي تؤدي إلى الفساد أو تصنعه، ومنها منع جميع المتورطين في النصب أو الاحتيال أو التهرب الضريبي أو التزوير أو السرقة، أو أي جريمة ترتبط بخيانة الأمانة، من الوصول إلى السلطة.
تفاصيل أوفر تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"