Thursday 3 July 2025
سياسة

الخبشي: بين الصمت والجرأة.. قراءة يسارية في خرجة حسن نجمي

الخبشي: بين الصمت والجرأة.. قراءة يسارية في خرجة حسن نجمي حسن نجمي (يسارا) وادريس لشكر
هذه المساهمة ليست سوى محاولة للمشاركة في النقاش الوطني الدائر حول الوضعية الراهنة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على ضوء ما أثارته خرجة حسن نجمي من ردود فعل وتفاعلات قوية. (تدوينتي فتيحة السداس- علي الغنبوري على سبيل المثال)، إنها قراءة يسارية، تتفاعل مع مضمون هذا البوح الاتحادي بما يستحقه من تقدير وتحليل، دون ادعاء الإحاطة أو الامتلاك، ولكن بإيمان عميق بأن الفكرة الاتحادية أكبر من الأشخاص، وأبقى من اللحظات العارضة.

لم تكن خرجة حسن نجمي مجرد لحظة انفعالية أو رغبة فردية في التمايز، بل كانت فعلا سياسيا بامتياز، جَسّد فيه المثقف موقفا منحازا بجرأة إلى الحقيقة، وإلى القيم المؤسسة لليسار المغربي، تلك التي تنهض على الصدق، والنقد، والانتصار لجوهر الفكرة في وجه التحلّل والانحراف. لقد كشف نجمي، وهو ابن التجربة الاتحادية فكرا وشعرا، عن درجة الانهيار التي بلغها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لا من موقع الخصومة أو الكيد، بل من موقع الألم، والانتماء المجروح، والوعي بأن الصمت الذي عمّ طويلا صار رديفا للرضا الضمني بالرداءة والانكسار.

ما قاله نجمي، وقد أوجعه، يردده بصيغ مختلفة آلاف المناضلين والمناضلات الذين لفظهم الحزب، أو غادروه قهرا لا اختيارا، وأنا واحد منهم. فقد طُردوا من البيت الاتحادي باسم الانضباط، وتمّ إقصاؤهم بسياسة السدود والولاءات الشخصية، لأنهم رفضوا أن يتحولوا إلى أدوات تزيين لمشهد حزبي مفكك، تُصاغ فيه القرارات في الغرف المغلقة، لا في قلب النقاش الديمقراطي. وباسم الواقعية، جرى اغتيال الفكرة التي تأسس عليها الاتحاد، وتم تهريب مشروع التحرر والديمقراطية إلى دهاليز التدبير الانتخابي، والإذعان للموازين المختلة.

إن ما صرّح به حسن نجمي ليس جديدا في مضمونه، لكنه جديد في توقيته ووقعه، لأنه كسر جدار الصمت الذي تواطأ على رفعه حتى مناضلون حقيقيون، آثروا الصمت اتقاء للخذلان أو اتساعا للمسافة. لقد نطق بما كان يجب أن يُقال منذ زمن طويل، وتلك فضيلة لا يجب أن تُغفل، بل أن تُثمّن، لأن البوح في لحظة الهزيمة هو أعلى درجات النضال الرمزي. وحين يتكلم الشاعر عن السياسة، فإنه لا يفعل ذلك ليملأ الفراغ، بل ليعيد للغة معناها، وللأمل موطئ قدم، وللفكرة جوهرها الحي.

لكن، كيف آل الأمر بحزب انبنى على الجماعة، على الحركة الجماهيرية، على الشهداء والاعتقالات والمرافعة المستميتة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، إلى أن يصير جهازا انتخابيا تتحكم فيه مافيات صغيرة من المصالح والصفقات؟ إن هذا التدهور لم يحدث بين عشية وضحاها، بل هو حصيلة مسلسل طويل من التنازلات التي قُدِّمت باسم الواقعية، والتي انتهت بتعطيل كل دينامية يسارية داخل الحزب، وسحق الصوت النقدي، ووأد الأفق الذي كان يعد بحزب جماهيري، ديمقراطي، واشتراكي.

والأخطر أن الحزب لم يفقد فقط آلياته التنظيمية الديمقراطية، بل فقد أيضا رمزيته، تلك التي كانت تُمثّل دعامة لليسار المغربي برمته. لقد تواطأ الكثيرون داخل الحزب مع هذا التحول، بعضهم بدافع الخوف، وبعضهم طمعا في المكاسب، وبعضهم يأسا من القدرة على التغيير. فخُيِّر الاتحاديون بين الصمت أو الإبعاد، بين الانضباط الذليل أو التهميش، فاختار مناضلون كثر الخروج من الحزب، لكنهم لم يخرجوا من الفكرة. وهذا ما يجب التذكير به اليوم: أن الفكرة الاتحادية لا تزال حية في وجدان هؤلاء، رغم أن الحزب، كتنظيم، خانها.

إن مسؤولية ما حدث لا يمكن اختزالها في القيادة وحدها، وإن كانت تتحمل النصيب الأكبر. بل هي مسؤولية كل من اختار أن يسكت، أو أن يهادن، أو أن ينسحب دون مواجهة. لقد صمتنا جميعًا أمام التواطؤ مع اليمين، وأمام تصفية الأداة الحزبية، وأمام تسليع السياسة. واليوم، حين يتكلم أحدنا، لا ينبغي أن نُحاكمه، بل أن نُعيد طرح السؤال من جديد: كيف نبعث الفكرة من أنقاض التنظيم؟ كيف نستعيد مشروعًا تقدمياً جماهيريًا قادرًا على خوض معارك التحرر والعدالة والديمقراطية من جديد؟

ليس المطلوب هو إصلاح الحزب من داخله، لأن الداخل صار مجالاً محاصراً، تُدار فيه السياسة كما تُدار الشركات. المطلوب هو استعادة الأفق الذي جسّده الاتحاد في الستينات والسبعينات، لا بتكرار الماضي، ولكن بإحياء روحه: بالانخراط في الحقل الاجتماعي، بتنظيم القواعد، ببناء خطاب نقدي جذري، بالالتحام مع النضالات الجماهيرية في الأحياء والجامعات والمعامل والقرى. هذا هو السبيل لبناء بديل حقيقي، لا ليبرالي مقنع، ولا يسارًا مزيفا.

لقد دقت خرجة حسن نجمي جرس إنذار حقيقي، لا يجب أن يُستهان به. لأنه حين ينطق الصامتون، ويبوح الجرحى، فإنهم لا يطلبون الشفقة، بل يوقظون الضمير الجمعي من سباته. وهذا الضمير هو ما نحتاجه اليوم لنقول، من داخل اليسار، ومن قلب الفكرة الاتحادية، أن المعركة لم تنته. وأن الحزب، كما هو الآن، ليس نهاية الطريق. بل هو انحراف عن المسار، لا بد أن يُصحح، أو أن يُستبدل ببناء جديد، نقي، وجذري، ومتحرر من كل قيود الترويض.
إننا لا نبكي على الأطلال، بل نصرخ ضد الرداءة. ولا نطلب العودة إلى حضن الحزب كما هو، بل نحلم بأن نعيد خلق الاتحاد كأداة ثورية، لا كملحق انتخابي. لذلك، فالخرجة ليست فعلا فرديا، بل بداية تأسيس ممكن، شرط أن تجد من يواصل الطريق، لا بالصمت، بل بالمواجهة.

الصمت لم يعد خيارا، والسكوت صار خيانة. ومن هذه اللحظة، لن تكون السياسة كما كانت، لأننا نريد أن نعيد لها شرفها، وأن نجعل من حزب الشهداء فضاءً للأحياء، لا مقبرة تُدفن فيها المبادئ.