ظاهرة الاغتيالات السياسية بالجزائر منذ الثورة إلى الآن ليست أمرا طارئا بل نهجا سياسيا تاريخيا
لا شيء بإمكانه أن يفرمل حاجة "جنرالات" الجزائر إلى «إنتاج الجثث» كي يستمروا في الوجود، ولا أحد بإمكانه أن يقنعهم بأن هناك طرقا أخرى، غير الاغتيالات والتصفيات، للتعبير عن السلطة. فهؤلاء «الجنرالات»، الذين ينامون ويستيقظون على أوهام «القوة العسكرية الضاربة»، لا يؤمنون بشيء قدر إيمانهم بأن «الجزائر العسكرية» قدر جزائري لا يمكن الاعتراض عليه، كما لا يمكن تغييره أو العمل على تغييره، ولو بالوسائل السلمية. بل إنهم يعتبرون «الحكم» مجالا خاصا و»ملكية محفوظة» لا يجوز لأي كان أن يتنازع معهم حولها، ولأ كان جزاؤه رصاصة في الرأس.
إن هؤلاء الذين تربوا في حضن «القتلة»، منذ الثورة إلى الآن، يعتبرون اللجوء إلى الاغتيال أمرا طبيعيا لا تستقيم أي سلطة بدونه، بل إنهم ينظرون إليه كـ «إرغام سياسي ميكيافيللي تاريخي» لا بد من اعتناقه لممارسة السياسة. غير أن الخاصية الجزائرية تكمن في أن فعل الاغتيال ليس موجها لعدو خارجي ينبغي تحييده وشن الحرب بلا هوادة عليه. وهذا ليس غريبا، كما تقول معظم المصادر الغربية، عند حديثها عن النظام السياسي الجزائري. فالتاريخ يؤكد أن الجزائر، إبان العهد العثماني (1520-1830) على سبيل المثال، كانت مرتعا لمجموعة من اللصوص والهاربين من العدالة، الذين هيمنوا على خيرات البلاد وثرواتها على حساب الأغلبية الساحقة من السكان. وهذا ما ينقله المؤرخ الجزائري محمد بوشنافي في مقال له حول «ظاهرة الصراع السياسي والاغتيالات بالجزائر أثناء العهد العثماني»، حيث سجل «تزايد عدد الاغتيالات السياسية التي مست حكام الإيالة آنذاك، أو من خلال التنافس الشديد على السلطة، وطبيعة الأشخاص الذين مارسوا هذه المهام، والذين كان معظمهم من فرقة الانكشارية وطائفة رياس البحر، كما أنهم كانوا من الأميين الذين لم يتوفروا على أي نصيب من الخبرة السياسية».
وتبعا لذلك، فإن ظاهرة الاغتيالات السياسية بالجزائر، منذ الثورة إلى الآن، ليست أمرا طارئا، بل نهجا سياسيا تاريخيا يعمل به العسكريون الميكيافيلليون للتخلص من خصومهم، حيث سقط عدد كبير من الجثث حتى الآن، من جثة القائد الثوري عبان رمضان (27 دجنبر 1957) إلى جثة القائد العكسري عمر بوسيس (9 يناير 2021). ذلك أن الأول استدرج من تونس إلى تطوان للتم تصفيته على يد عملاء «الباءات الثلاثة» «عبد الحفيظ بوصوف، كريم بلقاسم، لخضر بن طوبال»، بينما عثر على الثاني جثة هامدة داخل سيارته بعد تصفيته من طرف مجهولين. بيد أن أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع الجنرالين توفيق ونزار في الجريمة، خاصة أن بوسيس هو من حكم عليهما بالسجن حين كان اللقواء قايد صالح قائد عاما لأركان الجيش الجزائري.
لقد كان اغتيال القائد الثوري، عبان رمضان، بمدينة تطوان قبل استقلال الجزائر وسقوطها في يد طغمة عسكرية خائنة، هو «جرح الثورة الأول»، إذا استثنينا سقوط مجاهدين مرموقين بنيران صديقة، بسبب الاقتتال على المناطق العسكرية. واستمر هذا الجرح في الاتساع إثر اندلاع «الصراع بين قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة هواري بومدين والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سواء عندما كانت بقيادة فرحات عباس أو بن يوسف بن خدة فيما بعد، وقد أفضى هذا الصراع إلى ما يعرف بأزمة صيف 1962، والتي كادت أن تدخل الجزائر المستقلة حديثا في حرب أهلية طويلة الأمد لولا تعقل بعض رجالات الحكومة المؤِقتة وعلى رأسهم بن يوسف بن خدة، لكن هذه الأزمة وضعت الدولة الفتية على سكة غير سليمة لازال المجتمع الجزائري يعاني من آثارها الوخيمة إلى حد اليوم»، حسب ما قاله المؤرخ الجزائري رابح لونيسي في دراسة بعنوان: «الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين، دار المعرفة. الجزائر (1999). ص: 9-16".
وإذا كان بعض المؤرخين يذهبون إلى أن زمن الاغتيالات في الجزائر انطلق من لحظة «مؤتمر الصومام»، الذي هندسه عبان رمطان، فإن آخرين يرجعون ذلك إلى لحظة التخطيط لإدامة الاستعمار الفرنسي للجزائر عبر تسخير بعض «الخونة» والضباط الذين خدموا الجيش الفرنسي والتحقوا، خداعا ورياء، بجيش التحرير، مما سهل مأموريتهم في التخلص من أقوى المجاهدين وأشدهم شراسة في مواجهة قوات المستعمر. وعلى رأس هؤلاء العقيدين عميروش وسي الحواس اللذين استشهدا غدرا بعدما قام هواري بومدين «خائن الثورة الأكبر» بإرشاد القوات الفرنسية إلى مكان تواجدهما.
لقد كان مقتل رمطان هو الشرارة الأولى للاقتتال بين المسؤولين الجزائريين، غير أن الصراع بلغ ذروته سنة 1959، وخاصة بعد مقتل عميرة علاوة في القاهرة بمكتب رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، وإتهام لمين دباغين لكل من فرحات عباس ورجل المخابرات القوي بوصوف بإغتيال صديقه الذي كان يتهم الحكومة المؤقتة بالعجز عن إيجاد الحلول للمشاكل العويصة التي كانت تعاني منها الثورة. وهو الأمر الذي استغله كريم بلقاسم للاستحواذ على السلطة، وإنشاء حكومة عسكرية يتولى قيادتها، بحكم أنه الوحيد الذي بقي من ضمن التاريخيين التسع الذين أشعلوا فتيل الثورة «العربي بن مهيدي، مصطفى بن بولعيد، مراد ديدوش، محمد خيضر، محمد بوضياف، رابح بيطاط، أحمد بن بلة، كريم بلقاسم»، بالإضافة إلى أنه أقوى «الباءات الثلاث» بحكم قيادته للقوات المسلحة، وضمانه ولاء أقوى ولايات الداخل، وهي الولايات الثالثة والرابعة اللتان كانتا الأكثر تنظيما وقوة من الناحية العددية والكفاءات. غير أن بوصوف وبن طوبال رفضا رفضا قاطعا تولي كريم رئاسة الحكومة، لأن ذلك سيؤدي إلى اختلال التوازن بين «الباءات الثلاث» داخل أجهزة الثورة، ولم يكن أمام الحكومة إلا اللجوء إلى كل عقداء الثورة، وعددهم عشرة لحل هذا الانسداد، فانعقد بذلك ما يعرف بـ «اجتماع العقداء العشر» الذي استمر أكثر من مائة يوم، وعرف انشقاقات حادة بين تكتلين، يضم أحدهما كلا من بوصوف وبن طوبال وبومدين وعلي كافي ولطفي، أما الآخر فيضم كلا من كريم بلقاسم ومحمدي السعيد وسليمان دهيليس والحاج لخضر وسعيد يازوران، واشتد الخلاف حول تشكيلة المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي سيعين بدوره الحكومة الجديدة، وكان من أبرز نتائج هذه اللقاءات تراجع «الباءات الثلاث» وعلى رأسهم كريم بلقاسم وبروز قوة جديدة بقيادة هواري بومدين بحكم توليه لقيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، مما أدخله في صراعات كان ينهيها، في كل الأحوال، بتنفيذ أحكام الإعدام في حق خصومه، وطبخ ملفات الخيانة لمعارضي سياسته المخالفة لأحلام الثورة وقادة الاستقلال الفعليين.
لقد وظف النظام العسكري الجزائري تاريخ الثورة بشكل انتقائي وتزويري في الكثير من الأحيان بصفته سندا شرعيا لهذا النظام، وهذا ما استعرضه الباحث الجزائري محمد حربي في أطروحته لنيل دكتوراه الدولة، والتي اعتمد فيها على على مصدرين أساسيين هما: الأرشيف وشهادات رجال الثورة، مما مكنه من نزع القداسة عن الثورة والمروجين لها. كما كشف ذلك الباحث محمد لبجاوي في كتابه «حقائق حول الثورة» وفرحات عباس في كتابه «تشريح حرب» ومحند أعراب في كتابه «السعداء هم الشهداء الذين لم يرو شيئا». وهي كلها دراسات تشهد على دموية الجهاز القمعي العسكري الذي يحكم الجزائر، والذي كان يسعى إلى تغطية الحقائق التاريخية وكتابة تاريخ آخر بأقلام «مؤرخين مرتزقة».
لقد عمل الجهاز العسكري الاستخباراتي القمعي بالجزائر على تغييب ذكر الاغتيالات داخل الثورة، وذلك بإلحاق كل من تحدث عنها بركب مستهدفي الثورة والراغبين في تحطيم نفسية الشعب الجزائري وزرع الشقاق في صفوفه، وأيضا بتهديد كل من حاول نزع القداسة عن الثورة بفبركة الملفات والتخوين والنفي أو الاغتيال. كل ذلك لأن نظام الحكم في الجزائر ما زال يستند على الشرعية التاريخية، والحال أن «شرعية الثورة» لا تمنح لأي نظام كان أن يبني استمراره على الاغتيالات والتصفيات الجسدية التي لم يسلم منها حتى الرؤساء، بل حتى هؤلاء الذين استبسلوا من أجل تكريسها وجعلها نهجا للحكم، مثل هواري بومدين الذي تؤكد الكثير من الشهادات أنه لم يمت، بل اغتيل على يد رجال العسكر الأقوياء، وعلى رأسهم الجنرال مدين «الجنرال توفيق».
لم يتوقف جنرالات الجزائر عن إنتاج طرق مبتكرة لتنفيذ اغتيالات الخصوم، بل كان لهم دور كبير في إحداث الجماعات الإرهابية، مثل «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي قدمت خدمات جليلة للجيش من أجل شرعنة الانقلاب على «الشرعية الانتخابية»، حيث تحولت إلى سلاح راح ضحيته العديد من قادة «الفيس» «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، فضلا عن إعلاميين ومثقفين وحقوقيين ونقابيين ونشطاء سياسيين بارزين.
لقد أنتج الجيش الجزائري «العشرية السوداء» لسبب واحد هو التخلص من معارضي استمرار العسكر في التحكم في الشأن العام»، وهم معارضون من كل الأطياف والمذاهب والإيديولوجيات، وذلك بعد ضمور شرعية أصدقاء بومدين، محليا ودوليا، وبعد افتضاح أمر انقضاضهم على الثورة، ووقوفهم وراء الصراعات الدموية الحادة التي عانى منها الجزائريون الأحرار، وحالت دون بناء الدولة الوطنية والمجتمع الجزائري الديمقراطي.
إن هؤلاء العسكر هم من ثار ضدهم الشعب الجزائري في حراكه الأخير الذي كاد أن يعصف بأصحاب عروش قصر المرادية، وهم الذين أشرفوا على طبخ قضايا «التآمر على الجيش» و«التآمر على الدولة»، والتآمر على «القوة الضاربة» و«التآمر على الزعامة الإقليمية الوهمية» و«التآمر على «قارة الجزائر السعيدة»، كما أشرفوا على مواصلة الثأر من بعضهم البعض، جناحا ضد جناح، وإلا ما الذي يفسر الوفاة الغامضة للجنرال قايد صالح، مهندس القضاء على الحراك الشعبي؟ وما الذي يفسر اتهام الجنرال خالد نزار وجماعة الجنرال توفيق بالوقوف وراء اغتياله؟ وما حقيقة أن عملية الاغتيال جاءت نتيجة الصراع القوي داخل المؤسسة العسكرية بين جناح القايد صالح وجماعة اللواء سعيد شنقريحة والجنرال قايدي رئيس المخابرات الجزائرية؟ ثم ما الذي يبرر عودة الجنرالين العجوزين توفيق ونزار لو لم تكن مرتبطة بصفقة اغتيال القايد صالح وتمكين شنقريحة من قيادة الأركان العامة؟
إن هؤلاء الذين تربوا في حضن «القتلة»، منذ الثورة إلى الآن، يعتبرون اللجوء إلى الاغتيال أمرا طبيعيا لا تستقيم أي سلطة بدونه، بل إنهم ينظرون إليه كـ «إرغام سياسي ميكيافيللي تاريخي» لا بد من اعتناقه لممارسة السياسة. غير أن الخاصية الجزائرية تكمن في أن فعل الاغتيال ليس موجها لعدو خارجي ينبغي تحييده وشن الحرب بلا هوادة عليه. وهذا ليس غريبا، كما تقول معظم المصادر الغربية، عند حديثها عن النظام السياسي الجزائري. فالتاريخ يؤكد أن الجزائر، إبان العهد العثماني (1520-1830) على سبيل المثال، كانت مرتعا لمجموعة من اللصوص والهاربين من العدالة، الذين هيمنوا على خيرات البلاد وثرواتها على حساب الأغلبية الساحقة من السكان. وهذا ما ينقله المؤرخ الجزائري محمد بوشنافي في مقال له حول «ظاهرة الصراع السياسي والاغتيالات بالجزائر أثناء العهد العثماني»، حيث سجل «تزايد عدد الاغتيالات السياسية التي مست حكام الإيالة آنذاك، أو من خلال التنافس الشديد على السلطة، وطبيعة الأشخاص الذين مارسوا هذه المهام، والذين كان معظمهم من فرقة الانكشارية وطائفة رياس البحر، كما أنهم كانوا من الأميين الذين لم يتوفروا على أي نصيب من الخبرة السياسية».
وتبعا لذلك، فإن ظاهرة الاغتيالات السياسية بالجزائر، منذ الثورة إلى الآن، ليست أمرا طارئا، بل نهجا سياسيا تاريخيا يعمل به العسكريون الميكيافيلليون للتخلص من خصومهم، حيث سقط عدد كبير من الجثث حتى الآن، من جثة القائد الثوري عبان رمضان (27 دجنبر 1957) إلى جثة القائد العكسري عمر بوسيس (9 يناير 2021). ذلك أن الأول استدرج من تونس إلى تطوان للتم تصفيته على يد عملاء «الباءات الثلاثة» «عبد الحفيظ بوصوف، كريم بلقاسم، لخضر بن طوبال»، بينما عثر على الثاني جثة هامدة داخل سيارته بعد تصفيته من طرف مجهولين. بيد أن أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع الجنرالين توفيق ونزار في الجريمة، خاصة أن بوسيس هو من حكم عليهما بالسجن حين كان اللقواء قايد صالح قائد عاما لأركان الجيش الجزائري.
لقد كان اغتيال القائد الثوري، عبان رمضان، بمدينة تطوان قبل استقلال الجزائر وسقوطها في يد طغمة عسكرية خائنة، هو «جرح الثورة الأول»، إذا استثنينا سقوط مجاهدين مرموقين بنيران صديقة، بسبب الاقتتال على المناطق العسكرية. واستمر هذا الجرح في الاتساع إثر اندلاع «الصراع بين قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة هواري بومدين والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سواء عندما كانت بقيادة فرحات عباس أو بن يوسف بن خدة فيما بعد، وقد أفضى هذا الصراع إلى ما يعرف بأزمة صيف 1962، والتي كادت أن تدخل الجزائر المستقلة حديثا في حرب أهلية طويلة الأمد لولا تعقل بعض رجالات الحكومة المؤِقتة وعلى رأسهم بن يوسف بن خدة، لكن هذه الأزمة وضعت الدولة الفتية على سكة غير سليمة لازال المجتمع الجزائري يعاني من آثارها الوخيمة إلى حد اليوم»، حسب ما قاله المؤرخ الجزائري رابح لونيسي في دراسة بعنوان: «الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين، دار المعرفة. الجزائر (1999). ص: 9-16".
وإذا كان بعض المؤرخين يذهبون إلى أن زمن الاغتيالات في الجزائر انطلق من لحظة «مؤتمر الصومام»، الذي هندسه عبان رمطان، فإن آخرين يرجعون ذلك إلى لحظة التخطيط لإدامة الاستعمار الفرنسي للجزائر عبر تسخير بعض «الخونة» والضباط الذين خدموا الجيش الفرنسي والتحقوا، خداعا ورياء، بجيش التحرير، مما سهل مأموريتهم في التخلص من أقوى المجاهدين وأشدهم شراسة في مواجهة قوات المستعمر. وعلى رأس هؤلاء العقيدين عميروش وسي الحواس اللذين استشهدا غدرا بعدما قام هواري بومدين «خائن الثورة الأكبر» بإرشاد القوات الفرنسية إلى مكان تواجدهما.
لقد كان مقتل رمطان هو الشرارة الأولى للاقتتال بين المسؤولين الجزائريين، غير أن الصراع بلغ ذروته سنة 1959، وخاصة بعد مقتل عميرة علاوة في القاهرة بمكتب رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، وإتهام لمين دباغين لكل من فرحات عباس ورجل المخابرات القوي بوصوف بإغتيال صديقه الذي كان يتهم الحكومة المؤقتة بالعجز عن إيجاد الحلول للمشاكل العويصة التي كانت تعاني منها الثورة. وهو الأمر الذي استغله كريم بلقاسم للاستحواذ على السلطة، وإنشاء حكومة عسكرية يتولى قيادتها، بحكم أنه الوحيد الذي بقي من ضمن التاريخيين التسع الذين أشعلوا فتيل الثورة «العربي بن مهيدي، مصطفى بن بولعيد، مراد ديدوش، محمد خيضر، محمد بوضياف، رابح بيطاط، أحمد بن بلة، كريم بلقاسم»، بالإضافة إلى أنه أقوى «الباءات الثلاث» بحكم قيادته للقوات المسلحة، وضمانه ولاء أقوى ولايات الداخل، وهي الولايات الثالثة والرابعة اللتان كانتا الأكثر تنظيما وقوة من الناحية العددية والكفاءات. غير أن بوصوف وبن طوبال رفضا رفضا قاطعا تولي كريم رئاسة الحكومة، لأن ذلك سيؤدي إلى اختلال التوازن بين «الباءات الثلاث» داخل أجهزة الثورة، ولم يكن أمام الحكومة إلا اللجوء إلى كل عقداء الثورة، وعددهم عشرة لحل هذا الانسداد، فانعقد بذلك ما يعرف بـ «اجتماع العقداء العشر» الذي استمر أكثر من مائة يوم، وعرف انشقاقات حادة بين تكتلين، يضم أحدهما كلا من بوصوف وبن طوبال وبومدين وعلي كافي ولطفي، أما الآخر فيضم كلا من كريم بلقاسم ومحمدي السعيد وسليمان دهيليس والحاج لخضر وسعيد يازوران، واشتد الخلاف حول تشكيلة المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي سيعين بدوره الحكومة الجديدة، وكان من أبرز نتائج هذه اللقاءات تراجع «الباءات الثلاث» وعلى رأسهم كريم بلقاسم وبروز قوة جديدة بقيادة هواري بومدين بحكم توليه لقيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، مما أدخله في صراعات كان ينهيها، في كل الأحوال، بتنفيذ أحكام الإعدام في حق خصومه، وطبخ ملفات الخيانة لمعارضي سياسته المخالفة لأحلام الثورة وقادة الاستقلال الفعليين.
لقد وظف النظام العسكري الجزائري تاريخ الثورة بشكل انتقائي وتزويري في الكثير من الأحيان بصفته سندا شرعيا لهذا النظام، وهذا ما استعرضه الباحث الجزائري محمد حربي في أطروحته لنيل دكتوراه الدولة، والتي اعتمد فيها على على مصدرين أساسيين هما: الأرشيف وشهادات رجال الثورة، مما مكنه من نزع القداسة عن الثورة والمروجين لها. كما كشف ذلك الباحث محمد لبجاوي في كتابه «حقائق حول الثورة» وفرحات عباس في كتابه «تشريح حرب» ومحند أعراب في كتابه «السعداء هم الشهداء الذين لم يرو شيئا». وهي كلها دراسات تشهد على دموية الجهاز القمعي العسكري الذي يحكم الجزائر، والذي كان يسعى إلى تغطية الحقائق التاريخية وكتابة تاريخ آخر بأقلام «مؤرخين مرتزقة».
لقد عمل الجهاز العسكري الاستخباراتي القمعي بالجزائر على تغييب ذكر الاغتيالات داخل الثورة، وذلك بإلحاق كل من تحدث عنها بركب مستهدفي الثورة والراغبين في تحطيم نفسية الشعب الجزائري وزرع الشقاق في صفوفه، وأيضا بتهديد كل من حاول نزع القداسة عن الثورة بفبركة الملفات والتخوين والنفي أو الاغتيال. كل ذلك لأن نظام الحكم في الجزائر ما زال يستند على الشرعية التاريخية، والحال أن «شرعية الثورة» لا تمنح لأي نظام كان أن يبني استمراره على الاغتيالات والتصفيات الجسدية التي لم يسلم منها حتى الرؤساء، بل حتى هؤلاء الذين استبسلوا من أجل تكريسها وجعلها نهجا للحكم، مثل هواري بومدين الذي تؤكد الكثير من الشهادات أنه لم يمت، بل اغتيل على يد رجال العسكر الأقوياء، وعلى رأسهم الجنرال مدين «الجنرال توفيق».
لم يتوقف جنرالات الجزائر عن إنتاج طرق مبتكرة لتنفيذ اغتيالات الخصوم، بل كان لهم دور كبير في إحداث الجماعات الإرهابية، مثل «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي قدمت خدمات جليلة للجيش من أجل شرعنة الانقلاب على «الشرعية الانتخابية»، حيث تحولت إلى سلاح راح ضحيته العديد من قادة «الفيس» «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، فضلا عن إعلاميين ومثقفين وحقوقيين ونقابيين ونشطاء سياسيين بارزين.
لقد أنتج الجيش الجزائري «العشرية السوداء» لسبب واحد هو التخلص من معارضي استمرار العسكر في التحكم في الشأن العام»، وهم معارضون من كل الأطياف والمذاهب والإيديولوجيات، وذلك بعد ضمور شرعية أصدقاء بومدين، محليا ودوليا، وبعد افتضاح أمر انقضاضهم على الثورة، ووقوفهم وراء الصراعات الدموية الحادة التي عانى منها الجزائريون الأحرار، وحالت دون بناء الدولة الوطنية والمجتمع الجزائري الديمقراطي.
إن هؤلاء العسكر هم من ثار ضدهم الشعب الجزائري في حراكه الأخير الذي كاد أن يعصف بأصحاب عروش قصر المرادية، وهم الذين أشرفوا على طبخ قضايا «التآمر على الجيش» و«التآمر على الدولة»، والتآمر على «القوة الضاربة» و«التآمر على الزعامة الإقليمية الوهمية» و«التآمر على «قارة الجزائر السعيدة»، كما أشرفوا على مواصلة الثأر من بعضهم البعض، جناحا ضد جناح، وإلا ما الذي يفسر الوفاة الغامضة للجنرال قايد صالح، مهندس القضاء على الحراك الشعبي؟ وما الذي يفسر اتهام الجنرال خالد نزار وجماعة الجنرال توفيق بالوقوف وراء اغتياله؟ وما حقيقة أن عملية الاغتيال جاءت نتيجة الصراع القوي داخل المؤسسة العسكرية بين جناح القايد صالح وجماعة اللواء سعيد شنقريحة والجنرال قايدي رئيس المخابرات الجزائرية؟ ثم ما الذي يبرر عودة الجنرالين العجوزين توفيق ونزار لو لم تكن مرتبطة بصفقة اغتيال القايد صالح وتمكين شنقريحة من قيادة الأركان العامة؟
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"