الجزائر.. من اغتيال المعارضين إلى اغتيال الدولة

الجزائر.. من اغتيال المعارضين إلى اغتيال الدولة ‬ظاهرة‭ ‬الاغتيالات‭ ‬السياسية‭ ‬بالجزائر‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬ليست‭ ‬أمرا‭ ‬طارئا‭ ‬بل‭ ‬نهجا‭ ‬سياسيا‭ ‬تاريخيا‭
لا‭ ‬شيء‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يفرمل‭ ‬حاجة‭ ‬"جنرالات"‭ ‬الجزائر‭ ‬إلى‭ ‬«إنتاج‭ ‬الجثث»‭ ‬كي‭ ‬يستمروا‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يقنعهم‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬طرقا‭ ‬أخرى،‭ ‬غير‭ ‬الاغتيالات‭ ‬والتصفيات،‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭. ‬فهؤلاء‭ ‬«الجنرالات»،‭ ‬الذين‭ ‬ينامون‭ ‬ويستيقظون‭ ‬على‭ ‬أوهام‭ ‬«القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬الضاربة»،‭ ‬لا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بشيء‭ ‬قدر‭ ‬إيمانهم‭ ‬بأن‭ ‬«الجزائر‭ ‬العسكرية»‭ ‬قدر‭ ‬جزائري‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاعتراض‭ ‬عليه،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تغييره‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تغييره،‭ ‬ولو‭ ‬بالوسائل‭ ‬السلمية‭.  ‬بل‭ ‬إنهم‭ ‬يعتبرون‭ ‬«الحكم»‭ ‬مجالا‭ ‬خاصا‭ ‬و»ملكية‭ ‬محفوظة»‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لأي‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يتنازع‭ ‬معهم‭ ‬حولها،‭ ‬ولأ‭ ‬كان‭ ‬جزاؤه‭ ‬رصاصة‭ ‬في‭ ‬الرأس‭.‬
إن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تربوا‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬«القتلة»،‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬يعتبرون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الاغتيال‭ ‬أمرا‭ ‬طبيعيا‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬أي‭ ‬سلطة‭ ‬بدونه،‭ ‬بل‭ ‬إنهم‭ ‬ينظرون‭ ‬إليه‭ ‬كـ‭ ‬«إرغام‭ ‬سياسي‭ ‬ميكيافيللي‭ ‬تاريخي»‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬اعتناقه‭ ‬لممارسة‭ ‬السياسة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الخاصية‭ ‬الجزائرية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬فعل‭ ‬الاغتيال‭ ‬ليس‭ ‬موجها‭ ‬لعدو‭ ‬خارجي‭ ‬ينبغي‭ ‬تحييده‭ ‬وشن‭ ‬الحرب‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬عليه‭. ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬غريبا،‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬معظم‭ ‬المصادر‭ ‬الغربية،‭ ‬عند‭ ‬حديثها‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الجزائري‭. ‬فالتاريخ‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الجزائر،‭ ‬إبان‭ ‬العهد‭ ‬العثماني‭ ‬(1520-1830) على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬كانت‭ ‬مرتعا‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬اللصوص‭ ‬والهاربين‭ ‬من‭ ‬العدالة،‭ ‬الذين‭ ‬هيمنوا‭ ‬على‭ ‬خيرات‭ ‬البلاد‭ ‬وثرواتها‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬السكان‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ينقله‭ ‬المؤرخ‭ ‬الجزائري‭ ‬محمد‭ ‬بوشنافي‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬حول‭ ‬«ظاهرة‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬والاغتيالات‭ ‬بالجزائر‭ ‬أثناء‭ ‬العهد‭ ‬العثماني»،‭ ‬حيث‭ ‬سجل‭ ‬«تزايد‭ ‬عدد‭ ‬الاغتيالات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬مست‭ ‬حكام‭ ‬الإيالة‭ ‬آنذاك،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنافس‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬وطبيعة‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬مارسوا‭ ‬هذه‭ ‬المهام،‭ ‬والذين‭ ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬فرقة‭ ‬الانكشارية‭ ‬وطائفة‭ ‬رياس‭ ‬البحر،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الأميين‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتوفروا‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬السياسية»‭.‬
وتبعا‭ ‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاغتيالات‭ ‬السياسية‭ ‬بالجزائر،‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬ليست‭ ‬أمرا‭ ‬طارئا،‭ ‬بل‭ ‬نهجا‭ ‬سياسيا‭ ‬تاريخيا‭ ‬يعمل‭ ‬به‭ ‬العسكريون‭ ‬الميكيافيلليون‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬خصومهم،‭ ‬حيث‭ ‬سقط‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الجثث‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬من‭ ‬جثة‭ ‬القائد‭ ‬الثوري‭ ‬عبان‭ ‬رمضان‭ ‬(27‭ ‬دجنبر‭ ‬1957)‭ ‬إلى‭ ‬جثة‭ ‬القائد‭ ‬العكسري‭ ‬عمر‭ ‬بوسيس‭ ‬(9‭ ‬يناير 2021)‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬استدرج‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬تطوان‭ ‬للتم‭ ‬تصفيته‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬عملاء‭ ‬«الباءات‭ ‬الثلاثة»‭ ‬«عبد‭ ‬الحفيظ‭ ‬بوصوف،‭ ‬كريم‭ ‬بلقاسم،‭ ‬لخضر‭ ‬بن‭ ‬طوبال»،‭ ‬بينما‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬الثاني‭ ‬جثة‭ ‬هامدة‭ ‬داخل‭ ‬سيارته‭ ‬بعد‭ ‬تصفيته‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مجهولين‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬أصابع‭ ‬الاتهام‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ضلوع‭ ‬الجنرالين‭ ‬توفيق‭ ‬ونزار‭ ‬في‭ ‬الجريمة،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬بوسيس‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬عليهما‭ ‬بالسجن‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬اللقواء‭ ‬قايد‭ ‬صالح‭ ‬قائد‭ ‬عاما‭ ‬لأركان‭ ‬الجيش‭ ‬الجزائري‭.‬
لقد‭ ‬كان‭ ‬اغتيال‭ ‬القائد‭ ‬الثوري،‭ ‬عبان‭ ‬رمضان،‭ ‬بمدينة‭ ‬تطوان‭ ‬قبل‭ ‬استقلال‭ ‬الجزائر‭ ‬وسقوطها‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬طغمة‭ ‬عسكرية‭ ‬خائنة،‭ ‬هو‭ ‬«جرح‭ ‬الثورة‭ ‬الأول»،‭ ‬إذا‭ ‬استثنينا‭ ‬سقوط‭ ‬مجاهدين‭ ‬مرموقين‭ ‬بنيران‭ ‬صديقة،‭ ‬بسبب‭ ‬الاقتتال‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬العسكرية‭. ‬واستمر‭ ‬هذا‭ ‬الجرح‭ ‬في‭ ‬الاتساع‭ ‬إثر‭ ‬اندلاع‭ ‬«الصراع‭ ‬بين‭ ‬قيادة‭ ‬الأركان‭ ‬العامة‭ ‬لجيش‭ ‬التحرير‭ ‬الوطني‭ ‬بقيادة‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬والحكومة‭ ‬المؤقتة‭ ‬للجمهورية‭ ‬الجزائرية‭ ‬سواء‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬بقيادة‭ ‬فرحات‭ ‬عباس‭ ‬أو‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬خدة‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وقد‭ ‬أفضى‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بأزمة‭ ‬صيف‭ ‬1962،‭ ‬والتي‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬الجزائر‭ ‬المستقلة‭ ‬حديثا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬لولا‭ ‬تعقل‭ ‬بعض‭ ‬رجالات‭ ‬الحكومة‭ ‬المؤِقتة‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬خدة،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬وضعت‭ ‬الدولة‭ ‬الفتية‭ ‬على‭ ‬سكة‭ ‬غير‭ ‬سليمة‭ ‬لازال‭ ‬المجتمع‭ ‬الجزائري‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬الوخيمة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬اليوم»،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬المؤرخ‭ ‬الجزائري‭ ‬رابح‭ ‬لونيسي‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬بعنوان:‭ ‬«الجزائر‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬العسكريين‭ ‬والسياسيين،‭ ‬دار‭ ‬المعرفة‭. ‬الجزائر‭ ‬(1999)‭. ‬ص: 9-16"‭.‬
وإذا‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬يذهبون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬زمن‭ ‬الاغتيالات‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬«مؤتمر‭ ‬الصومام»،‭ ‬الذي‭ ‬هندسه‭ ‬عبان‭ ‬رمطان،‭ ‬فإن‭ ‬آخرين‭ ‬يرجعون‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬التخطيط‭ ‬لإدامة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬للجزائر‭ ‬عبر‭ ‬تسخير‭ ‬بعض‭ ‬«الخونة»‭ ‬والضباط‭ ‬الذين‭ ‬خدموا‭ ‬الجيش‭ ‬الفرنسي‭ ‬والتحقوا،‭ ‬خداعا‭ ‬ورياء،‭ ‬بجيش‭ ‬التحرير،‭ ‬مما‭ ‬سهل‭ ‬مأموريتهم‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬المجاهدين‭ ‬وأشدهم‭ ‬شراسة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوات‭ ‬المستعمر‭. ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬هؤلاء‭  ‬العقيدين‭ ‬عميروش‭ ‬وسي‭ ‬الحواس‭ ‬اللذين‭ ‬استشهدا‭ ‬غدرا‭ ‬بعدما‭ ‬قام‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬«خائن‭ ‬الثورة‭ ‬الأكبر»‭ ‬بإرشاد‭ ‬القوات‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬تواجدهما‭.‬
لقد‭ ‬كان‭ ‬مقتل‭ ‬رمطان‭ ‬هو‭ ‬الشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬للاقتتال‭ ‬بين‭ ‬المسؤولين‭ ‬الجزائريين،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬بلغ‭ ‬ذروته‭ ‬سنة‭ ‬1959،‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬عميرة‭ ‬علاوة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬بمكتب‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬المؤقتة‭ ‬فرحات‭ ‬عباس،‭ ‬وإتهام‭ ‬لمين‭ ‬دباغين‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬فرحات‭ ‬عباس‭ ‬ورجل‭ ‬المخابرات‭ ‬القوي‭ ‬بوصوف‭ ‬بإغتيال‭ ‬صديقه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتهم‭ ‬الحكومة‭ ‬المؤقتة‭ ‬بالعجز‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬الحلول‭ ‬للمشاكل‭ ‬العويصة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬الثورة‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬استغله‭ ‬كريم‭ ‬بلقاسم‭ ‬للاستحواذ‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬وإنشاء‭ ‬حكومة‭ ‬عسكرية‭ ‬يتولى‭ ‬قيادتها،‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬التاريخيين‭ ‬التسع‭ ‬الذين‭ ‬أشعلوا‭ ‬فتيل‭ ‬الثورة‭ ‬«العربي‭ ‬بن‭ ‬مهيدي،‭ ‬مصطفى‭ ‬بن‭ ‬بولعيد،‭ ‬مراد‭ ‬ديدوش،‭ ‬محمد‭ ‬خيضر،‭ ‬محمد‭ ‬بوضياف،‭ ‬رابح‭ ‬بيطاط،‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬بلة،‭ ‬كريم‭ ‬بلقاسم»،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬أقوى‭ ‬«الباءات‭ ‬الثلاث»‭ ‬بحكم‭ ‬قيادته‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة،‭ ‬وضمانه‭ ‬ولاء‭ ‬أقوى‭ ‬ولايات‭ ‬الداخل،‭ ‬وهي‭ ‬الولايات‭ ‬الثالثة‭ ‬والرابعة‭ ‬اللتان‭ ‬كانتا‭ ‬الأكثر‭ ‬تنظيما‭ ‬وقوة‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬العددية‭ ‬والكفاءات‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بوصوف‭ ‬وبن‭ ‬طوبال‭ ‬رفضا‭ ‬رفضا‭ ‬قاطعا‭ ‬تولي‭ ‬كريم‭ ‬رئاسة‭ ‬الحكومة،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬اختلال‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬«الباءات‭ ‬الثلاث»‭ ‬داخل‭ ‬أجهزة‭ ‬الثورة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬الحكومة‭ ‬إلا‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬عقداء‭ ‬الثورة،‭ ‬وعددهم‭ ‬عشرة‭ ‬لحل‭ ‬هذا‭ ‬الانسداد،‭ ‬فانعقد‭ ‬بذلك‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بـ‭ ‬«اجتماع‭ ‬العقداء‭ ‬العشر»‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬يوم،‭ ‬وعرف‭ ‬انشقاقات‭ ‬حادة‭ ‬بين‭ ‬تكتلين،‭ ‬يضم‭ ‬أحدهما‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬بوصوف‭ ‬وبن‭ ‬طوبال‭ ‬وبومدين‭ ‬وعلي‭ ‬كافي‭ ‬ولطفي،‭ ‬أما‭ ‬الآخر‭ ‬فيضم‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬كريم‭ ‬بلقاسم‭ ‬ومحمدي‭ ‬السعيد‭ ‬وسليمان‭ ‬دهيليس‭ ‬والحاج‭ ‬لخضر‭ ‬وسعيد‭ ‬يازوران،‭ ‬واشتد‭ ‬الخلاف‭ ‬حول‭ ‬تشكيلة‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثورة‭ ‬الجزائرية‭ ‬الذي‭ ‬سيعين‭ ‬بدوره‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬نتائج‭ ‬هذه‭ ‬اللقاءات‭ ‬تراجع‭ ‬«الباءات‭ ‬الثلاث»‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬كريم‭ ‬بلقاسم‭ ‬وبروز‭ ‬قوة‭ ‬جديدة‭ ‬بقيادة‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬بحكم‭ ‬توليه‭ ‬لقيادة‭ ‬الأركان‭ ‬العامة‭ ‬لجيش‭ ‬التحرير‭ ‬الوطني،‭ ‬مما‭ ‬أدخله‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬كان‭ ‬ينهيها،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬بتنفيذ‭ ‬أحكام‭ ‬الإعدام‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬خصومه،‭ ‬وطبخ‭ ‬ملفات‭ ‬الخيانة‭ ‬لمعارضي‭ ‬سياسته‭ ‬المخالفة‭ ‬لأحلام‭ ‬الثورة‭ ‬وقادة‭ ‬الاستقلال‭ ‬الفعليين‭. ‬
لقد‭ ‬وظف‭ ‬النظام‭ ‬العسكري‭ ‬الجزائري‭ ‬تاريخ‭ ‬الثورة‭ ‬بشكل‭ ‬انتقائي‭ ‬وتزويري‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بصفته‭ ‬سندا‭ ‬شرعيا‭ ‬لهذا‭ ‬النظام،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬استعرضه‭ ‬الباحث‭ ‬الجزائري‭ ‬محمد‭ ‬حربي‭ ‬في‭ ‬أطروحته‭ ‬لنيل‭ ‬دكتوراه‭ ‬الدولة،‭ ‬والتي‭ ‬اعتمد‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬على‭ ‬مصدرين‭ ‬أساسيين‭ ‬هما:‭ ‬الأرشيف‭ ‬وشهادات‭ ‬رجال‭ ‬الثورة،‭ ‬مما‭ ‬مكنه‭ ‬من‭ ‬نزع‭ ‬القداسة‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬والمروجين‭ ‬لها‭. ‬كما‭ ‬كشف‭ ‬ذلك‭ ‬الباحث‭ ‬محمد‭ ‬لبجاوي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«حقائق‭ ‬حول‭ ‬الثورة»‭ ‬وفرحات‭ ‬عباس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«تشريح‭ ‬حرب»‭ ‬ومحند‭ ‬أعراب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«السعداء‭ ‬هم‭ ‬الشهداء‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يرو‭ ‬شيئا»‭. ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬دراسات‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬دموية‭ ‬الجهاز‭ ‬القمعي‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬الجزائر،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تغطية‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬وكتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬آخر‭ ‬بأقلام‭ ‬«مؤرخين‭ ‬مرتزقة»‭.‬
لقد‭ ‬عمل‭ ‬الجهاز‭ ‬العسكري‭ ‬الاستخباراتي‭ ‬القمعي‭ ‬بالجزائر‭ ‬على‭ ‬تغييب‭ ‬ذكر‭ ‬الاغتيالات‭ ‬داخل‭ ‬الثورة،‭ ‬وذلك‭ ‬بإلحاق‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬بركب‭ ‬مستهدفي‭ ‬الثورة‭ ‬والراغبين‭ ‬في‭ ‬تحطيم‭ ‬نفسية‭ ‬الشعب‭ ‬الجزائري‭ ‬وزرع‭ ‬الشقاق‭ ‬في‭ ‬صفوفه،‭ ‬وأيضا‭ ‬بتهديد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حاول‭ ‬نزع‭ ‬القداسة‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬بفبركة‭ ‬الملفات‭ ‬والتخوين‭ ‬والنفي‭ ‬أو‭ ‬الاغتيال‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬الشرعية‭ ‬التاريخية،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬«شرعية‭ ‬الثورة»‭ ‬لا‭ ‬تمنح‭ ‬لأي‭ ‬نظام‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬استمراره‭ ‬على‭ ‬الاغتيالات‭ ‬والتصفيات‭ ‬الجسدية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬الرؤساء،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬استبسلوا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تكريسها‭ ‬وجعلها‭ ‬نهجا‭ ‬للحكم،‭ ‬مثل‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬الذي‭ ‬تؤكد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشهادات‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يمت،‭ ‬بل‭ ‬اغتيل‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬رجال‭ ‬العسكر‭ ‬الأقوياء،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الجنرال‭ ‬مدين‭ ‬«الجنرال‭ ‬توفيق»‭.‬
لم‭ ‬يتوقف‭ ‬جنرالات‭ ‬الجزائر‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬طرق‭ ‬مبتكرة‭ ‬لتنفيذ‭ ‬اغتيالات‭ ‬الخصوم،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭  ‬إحداث‭ ‬الجماعات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬مثل‭ ‬«الجماعة‭ ‬السلفية‭ ‬للدعوة‭ ‬والقتال»‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬خدمات‭ ‬جليلة‭ ‬للجيش‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شرعنة‭ ‬الانقلاب‭ ‬على‭ ‬«الشرعية‭ ‬الانتخابية»،‭ ‬حيث‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬سلاح‭ ‬راح‭ ‬ضحيته‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬«الفيس»‭ ‬«الجبهة‭ ‬الإسلامية‭ ‬للإنقاذ»،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إعلاميين‭ ‬ومثقفين‭ ‬وحقوقيين‭ ‬ونقابيين‭ ‬ونشطاء‭ ‬سياسيين‭ ‬بارزين‭.‬
لقد‭ ‬أنتج‭ ‬الجيش‭ ‬الجزائري‭ ‬«العشرية‭ ‬السوداء»‭ ‬لسبب‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬معارضي‭ ‬استمرار‭ ‬العسكر‭ ‬في‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬العام»،‭ ‬وهم‭ ‬معارضون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأطياف‭ ‬والمذاهب‭ ‬والإيديولوجيات،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬ضمور‭ ‬شرعية‭ ‬أصدقاء‭ ‬بومدين،‭ ‬محليا‭ ‬ودوليا،‭ ‬وبعد‭ ‬افتضاح‭ ‬أمر‭ ‬انقضاضهم‭ ‬على‭ ‬الثورة،‭  ‬ووقوفهم‭ ‬وراء‭ ‬الصراعات‭ ‬الدموية‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬عانى‭ ‬منها‭ ‬الجزائريون‭ ‬الأحرار،‭ ‬وحالت‭ ‬دون‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬والمجتمع‭ ‬الجزائري‭ ‬الديمقراطي‭.‬
إن‭ ‬هؤلاء‭ ‬العسكر‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬ثار‭ ‬ضدهم‭ ‬الشعب‭ ‬الجزائري‭ ‬في‭ ‬حراكه‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يعصف‭ ‬بأصحاب‭ ‬عروش‭ ‬قصر‭ ‬المرادية،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬أشرفوا‭ ‬على‭ ‬طبخ‭ ‬قضايا‭ ‬«التآمر‭ ‬على‭ ‬الجيش»‭ ‬و«التآمر‭ ‬على‭ ‬الدولة»،‭ ‬والتآمر‭ ‬على‭ ‬«القوة‭ ‬الضاربة»‭ ‬و«التآمر‭ ‬على‭ ‬الزعامة‭ ‬الإقليمية‭ ‬الوهمية»‭ ‬و«التآمر‭ ‬على‭ ‬«قارة‭ ‬الجزائر‭ ‬السعيدة»،‭ ‬كما‭ ‬أشرفوا‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬جناحا‭ ‬ضد‭ ‬جناح،‭ ‬وإلا‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬الوفاة‭ ‬الغامضة‭ ‬للجنرال‭ ‬قايد‭ ‬صالح،‭ ‬مهندس‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬اتهام‭ ‬الجنرال‭ ‬خالد‭ ‬نزار‭ ‬وجماعة‭ ‬الجنرال‭ ‬توفيق‭ ‬بالوقوف‭ ‬وراء‭ ‬اغتياله؟‭ ‬وما‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬الاغتيال‭ ‬جاءت‭ ‬نتيجة‭ ‬الصراع‭ ‬القوي‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬بين‭ ‬جناح‭ ‬القايد‭ ‬صالح‭ ‬وجماعة‭ ‬اللواء‭ ‬سعيد‭ ‬شنقريحة‭ ‬والجنرال‭ ‬قايدي‭ ‬رئيس‭ ‬المخابرات‭ ‬الجزائرية؟‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يبرر‭ ‬عودة‭ ‬الجنرالين‭ ‬العجوزين‭ ‬توفيق‭ ‬ونزار‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مرتبطة‭ ‬بصفقة‭ ‬اغتيال‭ ‬القايد‭ ‬صالح‭ ‬وتمكين‭ ‬شنقريحة‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الأركان‭ ‬العامة؟
 
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
رابط العدد هنا