منذ دخوله إلى قصر الإليزيه على أكتاف تراخي اليسار واليمين، لا شيء يجري كما يخطط له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يضع نفسه زورا وبهتانا في زمرة الزعماء الأذكياء الذين بوسعهم قلب المعادلات وتغيير السياسات والتلاعب بالخصوم والحلفاء وإقناع الفرنسيين بأنه "سوبر ليدر". فقد فرضت عليه الاحتجاجات واسعة النطاق، التي اندلعت منذ 27 يونيو الماضي، إلغاء خطاب "العيد الوطني" الذي كان مقررا اليوم الجمعة، والسبب، كما يرى الملاحظون، أن ماكرون عاجز عن إقناع فرنسا بـ "فترة التهدئة"، خاصة أنه أثبت أنه رئيس اختار أن يكون ضد الآلة الديمقراطية لبلاده، وذلك باللجوء إلى القوانين الاسنثنائية، مثلما هو الحال مع "إصلاح نظام التقاعد".
إلغاء ماكرون لخطاب 14 يوليوز أملاه الحرج الكبير من عجزه عن إغلاق ملف الاحتجاجات الاجتماعية، حيث شهدت فترة "التهدئة" التي دعا إليها أعمال شغب ما زالت مستمرة إلى الآن، رغم تجنيد حوالي 45 ألف شرطي ودركي مدعومين بآليات مدرعة لمكافحة أعمال الشغب، لإحلال نوع من الاستقرار في العديد من البلديات التي أعلن رؤساؤها أن الدولة تخلت عنهم.
وذكرت تقارير إعلامية كثيرة أن ماكرون "أبدع" في تجاهل أسباب الغضب المتجذر في الضواحي بسبب التهميش والفقر والهشاشة، معتقدا أن الحل يكمن في "الحكم من خلال عنف الشرطة"، كما وقع سابقا مع احتجاجات "السترات الصفراء".
وتشهد فرنسا، حاليا، أزمة أمنية واجتماعية وسياسية وتعليمية، بما في ذلك مشاكل هيكلية معروفة ولم يتم حلها أبدا، خاصة أن ماكرون دأب على الرهان على الوقت من أجل إخماد غضب الشارع، وأيضا على ممارسة التخفي وراء "اللسان" الذي يريد أن يضع فرنسا في طليعة القوى العالمية الكبرى، من خلال اللجوء إلى إشعال الحروب الجيوسياسية والجيو استراتيجية وتفصيلها لخدمة أجندة الزعامة الفرنسية، كما هو الحال في إفريقيا وبعض الدول العربية. والحال أن سياسيات ماكرون لم تعد تقنع أحدا، وبات الرئيس الفرنسي محط سخرية من الحكومات والمنظمات العالمية، حيث دعت منظمة العفو الدولية فرنسا إلى الاعتراف "بالعنصرية الممنهجة" في تطبيق القانون، وكذلك "مراجعة شاملة للقواعد الفرنسية التي تحكم استخدام الأسلحة النارية" من قبل قواتها الأمنية.
إن كل المؤشرات تؤكد أن ماكرون فقد السيطرة، وأن عملية تفكيك الأزمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفرنسية تفرض "انتخاب" زعيم بمواصفات أخرى يفتقدها الرئيس الحالي الذي حول بلاده إلى "رجل أوروبا المريض". وما يؤكد ذلك هو تنوع الاحتجاجات وتواترها واتساع رقعتها، فضلا عن إفلاس اقتصادي غير مسبوق مع توقف النمو، وإفلاس اجتماعي مع انخفاض نصيب الفرد من الثروة، وإفلاس مالي مع ارتفاع الدين العام، ثم إفلاس مدني وإفلاس سياسي، وأخيرا إفلاس أخلاقي تغذيه ديناميكيات الكراهية والعنف والخوف التي تقوي عدم ثقة المواطنين في النموذج الديمقراطي لفرنسا.
لقد ألغى ماكرون خطاب 14 يوليوز ليس لارتباطه بأجندة خارجية تقتضي وجوده في العديد من العواصم الأوروبية، بل لأن ماكرون في ورطة حقيقية يخفيها بإخراج رجال الأمن إلى الشارع في شبه حرب أهلية لا يعري أي أحد نتائجها إذا استمر "الزعيم الديماغوجي" في ممارسة تعاليه على المطالب الاجتماعية المشروعة..