لقد اختارت الجزائر أن تدعم اللاستقرار، وأن تجعل للحركات الإرهابية والانفصالية المسلحة دورا بارزا في بلدانها
أكدت دراسة أكاديمية قدمها الباحث السنغالي «نيني جوبيتر ندياى»، أنه «أينما توجد حركات انفصالية، توجد دول منافسة تقدم الدعم لها لأسباب تتعلق بالمكانة والموقع الجيوسياسى، من خلال سياسة الإرشاد والدعم المالى والعسكرى واللوجسيتى.. كما أن أغلب تلك الحركات تنتهج العنف وحمل السلاح والأصولية والتشدد لتحقيق غايتها».
هذا التحليل ينطبق بحذافيره على ما دأب عليه جنرالات قصر المرادية بالجزائر، منذ انقلاب محمد إبراهيم بوخروبة «هواري بومدين» على قادة الثورة الجزائرية.
فقد عمل العسكريون الجزائريون المأخوذون بضرورة الحصول على «الشرعية الثورية"- التي سوَّق لها طويلا بومدين، لأنها ما ينقصه بالفعل- على تحويل «المستعمرة الفرنسية» إلى محضنة آمنة لـ «الحركات الانفصالية»، في إسبانيا وإيرلندا الشمالية وأنغولا وأمريكا اللاتينية. كما سعت إلى استقبال الإرهابيين والمنفيين والهاربين من الأحكام القضائية بالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا وأمريكا الوسطى، فضلا عن مسلحين ومعارضين سياسيين راديكاليين تورطوا في مؤامرات أو اغتيالات. بل الأدهى من ذلك أن الجزائر أنفقت بسخاء من أجل تمويل العمل المسلح لمقاتلي الحركات الانفصالية أوالإرهابية في العالم، أمثال الفهود السود، إيتا الباسكية، سوابو الناميبية، البوليساريو.. مما جعل الجزائر تعتبر في وقت لاحق «إلدورادو الحركات الإرهابية»، وبات يقصدها كل حامل سلاح يبحث عن الإرتزاق، أو عن صنع «حزب» أو «دولة» أو عصابة..
لقد أرادت الجزائر (أو «أُريد لها» بمعنى أدق) أن تصبح محورا جيواستراتيجيا بالغ الأهمية في منطقة الشمال الإفريقي والشق الغربي من العالم العربي، بل أن تصبح نقطة التقاء لكل الحركات المناهضة للأنظمة بمختلف ربوع العالم. فمنذ لحظة الاستقلال التي شهدت «حربا أهلية» في الجزائر بين رؤساء المناطق العسكرية قبل أن تحسم الحرب لصالح بومدين، ظهر تحول واضح للعيان في توجه الجزائر نحو إقامة علاقات خارجية مبنية على «الجذب التحرري»، أي على تمويل حركات مسلحة وإعدادها للانقضاض على السلطة، في أفق تحويلها إلى دعامة خارجية لمخططها في تحقيق الزعامة الإقليمية، وتحويل دول الجوار إلى مجرد مقاطعات تابعة لـ «الباب العالي» بالجزائر العاصمة. والأدهى من ذلك أن الجزائر، التي تستعذب اسم «الدولة القارة» أو «القوة القاهرة»، رأت أنها تملك القدرة والأهلية والتاريخ والجغرافيا، من خلال ثراوتها الطبيعية، على أن تصير قوة دولية، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد السوفياتي «سابقا».
لقد رحب العكسر الجزائري الملوث بدماء الشهداء وقادة الثورة الجزائرية الحقيقيين في الجبال والوديان والصحارى، بمختلف الكيانات الانفصالية الراغبة في تأسيس «وطن جديد» مثلما هو الحال مع حركة إيتا الباسكية التي خاضت صراعا طويلا مع الحكومة والشعب الإسباني من أجل الانفصال، وهي الحركة التي يشهد التاريخ أنها مارست كل النشاطات الإرهابية العنيفة، من قتل وتفجير واختطاف، الأمر الذي أدى إلى الإضرار بالاستقرار السياسي لإسبانيا على مدار سنوات. وكانت الجزائر تستعمل ورقة «إيتا» لابتزاز مدريد من أجل تحييدها في نزاع الصحراء الذي «ابتكره» بومدين نكاية في المغرب.
لقد دبر بومدين، بالتعاون مع إسبانيا، لإحداث بؤرة توتر بجنوب المغرب «وتحقيق طموح استعماري فرنسي بإنشاء دولة في تندوف»، وذلك ما أخبر به الحسن الثاني المختار ولد داداه سنة 1973، وذلك استنادا إلى تقارير استخباراتية أمريكية، أفرج عن بعضها حاليا، أشارت لوقوع مفاوضات سرية خلال تلك الفترة بين الرئيس الجزائري هواري بومدين والسلطات الإسبانية، حول منح إسبانيا للجزائر منفذا على المحيط الأطلسي مقابل قيام الجزائر بالتوقف عن دعم مطالب تحرير الصحراء. والحال أن المغرب طيلة مفاوضات الجزائر مع فرنسا من أجل الاستقلال، ظل يؤجل ترسيم حدوده الشرقية والجنوبية إلى حين التفاوض مع الجزائر المستقلة مباشرة، فلم يطالب بعودة الصحراء الشرقية، أو باسترجاع تندوف وعودتها إلى التراب الوطني. بل كان يطالب بشيئين اثنين: عودة السلطان الشرعي محمد الخامس رحمه الله إلى عرشه ووطنه، والظفر باستقلال المغرب.
لقد بات جليا الآن أن «البوليساريو» التي تستعملها الجزائر ضد المغرب، تحولت إلى ماكينة إرهابية يضعها قصر المرادية على عنق العالم من أجل تحقيق مكاسب سياسية وترابية. حيث يؤكد عمر هلال، الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، أن تواطؤ «بوليساريو» مع الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، بات أمرا ثابتا. بل إن الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد داعش، الذي انعقد بمراكش (2022)، أكد الصلات العميقة التي تربط بين الانفصال والتنظيمات الإرهابية «تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بمنطقة الساحل، داعش.. إلخ» في إفريقيا، بل اعتبر أن «الجماعات الانفصالية تعد عاملا لزعزعة الاستقرار والهشاشة في المنطقة».
لقد ذكر المؤرخ والخبير السياسي الإسباني، بيدرو إغناسيو ألتاميرانو، أن «النظام الجزائري شكل ولا يزال ملاذا للجماعات الإرهابية، لاسيما البوليساريو وإيتا»، مشيرا إلى أن «إسبانيا كانت دائما على علم بأن الجزائر دربت وكونت ودعمت الإرهاب الدولي والإرهاب في إفريقيا، وخاصة جبهة البوليساريو وإيتا الباسكية».
وأكد بيدرو إغناسيو ألتاميرانو أن «دعم النظام الجزائري لجماعة إيتا الإرهابية معروف تاريخيا، من حيث التدريب أو الدعم الدبلوماسي»، وأعضاء إيتا كانوا يتدربون بمعسكرات جزائرية في شمال البلاد». وتابع: «الجزائر أصبحت الملاذ الحقيقي للحركات الثورية المسلحة، وقدمت الدعم دائما لكل أنواع العصابات الإرهابية، بما في ذلك إيتا وجبهة البوليساريو»، مضيفا أن «الجزائر خصصت في معسكراتها دورات تكوينية لتنظيم إيتا الذي كان يطالب باستقلال إقليم الباسك».
ولا يكتفي العسكر الجزائري باحتضان المرتزقة والإرهابيين، أمثال الإرهابي الفنزويلي كارلوس «الذي كان صديقا شخصيا لبومدين وبوتفليقة»، بل إنه فتح الباب لإيران التي بادرت إلى إرسال إرهابيين من «حزب الله» اللبناني لإعادة «تتياك» الخريطة السياسية في شمال إفريقيا، حيث تمكنت طهران، عبر «تنظيمها اللبناني»، من إقامة روابط عسكرية بمرتزقة البوليساريو، وهو ما حذّر منه ممثلون أوروبيون، مثل النائب أنطونيو لوبيز إستوريز وايت.
وقد كشفت العديد من التقارير الإعلامية والاستخباراتية عن وجود علاقات متينة بين البوليساريو و«حزب الله». بل ثبت أن التنظيم الإرهابي اللبناني متورط في شبكة مالية واسعة لجبهة البوليساريو، تمتد من تندوف إلى أوروبا والإمارات والسعودية وبالطبع لبنان عبر «حزب الله». ومن بين البلدان الأوروبية التي يشملها هذا المخطط، ذكرت صحيفة «دي فيلت» الألمانية بلجيكا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا.
وترى التقارير الاستخباراتية أن توغل «حزب الله» وإيران في شمال إفريقيا لا يشكل تهديدا لاستقرار المنطقة المغاربية أو دول جنوب الصحراء فقط، بل يشكل أيضا تهديدا لأوروبا، خاصة أن إيران تحاول منذ فترة طويلة توسيع نفوذها في المنطقة المغاربية، وهو ما تأتى لها من خلال «الحضن الجزائري» الذي يضع البوليساريو في طليعة أسلحته الموجهة ضد المغرب، وأي تعاون مع إيران لا بد أن يشمل نزاع الصحراء وتدريب الانفصاليين وتسليحهم وإعدادهم من أجل شن حرب «المسيرات» على القوات المسلحة الملكية.
لقد اختارت الجزائر أن تدعم اللاستقرار، وأن تجعل للحركات الإرهابية والانفصالية المسلحة دورا بارزا في بلدانها، مما يُمهد لها الطريق لاختراق تلك البلدان وإلحاقها بالحلف الجزائري الكبير. ولعل هذا ما يثبت أن الجزائر ظلت مخلصة للحظة التأسيس، تلك اللحظة التي تشكل حلقة في سلسلة الحروب الأهلية بالقارة، خاصة في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.. غير أن تطلعها الأكبر هو تحقيق الاختراق الأكبر بإنشاء دولة البوليساريو، وإلحاق أكبر خسارة سياسية وديبلوماسية وعسكرية بالمغرب الذي يشكل عقدة لعسكر دولة العصابة..
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
رابط العدد هنا
رابط العدد هنا