الأحد 19 مايو 2024
فن وثقافة

المرحوم محمد الرشيد ملين: جولات بالقلم بين المراحل والعصور

 
 
المرحوم محمد الرشيد ملين: جولات بالقلم بين المراحل والعصور المرحوم محمد الرشيد ملين، في شبابه وشيخوخته
صورة شخصية تغالب النسيان:
في حلقة هذا الأسبوع من برنامج "مدارات"، الذي تبثه الإذاعة الوطنية من الرباط، تحدث الإعلامي عبد الاله التهاني عن شخصية المرحوم محمد الرشيد ملين، معتبرا إياه بأنه من الشخصيات الفذة في التاريخ الحديث للمغرب، والتي لا يطويها النسيان، ولا تسهو عنها ذاكرة العارفين، وأنه من الوجوه التي أسهمت في مجال الفكر قدر إسهامها في ساحة العمل الوطني، واصفا إياه بأنه كان  وجها بارزا ضمن النخبة المغربية في النصف الأول من القرن العشرين، أي خلال فترة الوجود الاستعماري الفرنسي بالمغرب، وأن حضوره امتد إلى ما بعد استقلال البلاد.

وأضاف أن محمد الرشيد ملين هو سليل أسرة رباطية عريقة، حيث كان والده الحاج آمحمد ملين، فقيها وخطيبا مقتدرا ، شغل في عهد السلطان المولى يوسف مهام ناظر للأحباس بالعاصمة الرباط، ثم عين وزيرا للأحباس على عهد المغفور له الملك المغفور له محمد الخامس،  بعد استقلال المغرب. 

وأوضح أنه أطل على الدنيا عام 1916، أي بعد أربع سنوات من دخول المغرب، في نفوذ سلطة الحماية الفرنسية والاسبانية بالمغرب .
 
عصامية الرجل والتزامه الوطني: 
وبخصوص المساره التعليمي لمحمد الرشيد ملين، أبرز الإعلامي عبد الإله التهاني بأن والده كان هو معلمه الأول، ثم انتظم في دراسته الابتدائية والثانوية بثانوية مولاي يوسف بالرباط، وكان مشهودا له بالنبوغ المبكر والتفوق الدراسي بين أقرانه، إلى أن اضطر إلى توقيف تمدرسه بسبب تفسيره لمفهوم نظام الحماية الفرنسية بالمغرب،، خلال إنجازه لأحد الفروض الدراسية، حيث رأى فيه الشاب ملين وقتها أنه حكم مباشر، وليس أبدا "نظام حماية"، كما تدعي وثيقة الحماية،  التي فرض على المغرب توقيعها عام 1912.
 
وعن انخراطه المبكر في صفوف المقاومة ، قال معد ومقدم البرنامج، بأنه في الثلاثينات من القرن الماضي، سينخرط محمد الرشيد ملين في تنظيمات الحركة الوطنية المغربية، ليصبح بعد فترة وجيزة واحدا من الوجوه البارزة فيها.

كما سيصبح في منتصف الأربعينات، واحدا من الكفاءات الوطنية التي حظيت بثقة المغفور له الملك محمد الخامس، حيث سيعينه مديرا للمطبعة الملكية، ويجعل منه واحدا ممن يحضون بالعمل قريبا منه، سواء في الشأن الإداري الموكول إليه، أو في قضايا وطنية كبرى لا تقل أهمية بحكم صلتها بالتدبير السياسي، لتحقيق مشروع استقلال البلاد.

وفي هذا السياق، أشار إلى  الدور الحيوي الذي أسهم به  المرحوم محمد الرشيد ملين خلال زيارة المغفور له الملك محمد الخامس إلى طنجة،  في أبريل من العام 1947، حيث كان رئيسا للبعثة الأدبية خلال هذه الزيارة الملكية، والتي تميزت بالخطاب الملكي التاريخي، الذي أكد الإصرار المغربي الثابت على إرادة الإنعتاق والتحرر والوحدة،  وترسيخ الهوية الوطنية.

وفي العام 1950، سيعين محمد الرشيد ملين مندوبا للصدر الأعظم في الإنتاج الصناعي والمعادن، بيد أن إدارة الحماية الفرنسية بالمغرب، ستظل تخطط لإبعاده من هذا الموقع الإداري الرفيع، بل سيصل الأمر إلى عزله واعتقاله، ونفيه خارج الرباط سنة 1952، لتبدأ بذلك فصول محنته الطويلة التي لم تنته إلا ببزوغ فصل الاستقلال، حيث سيحظى بالتقدير من ملك البلاد العائد من منفاه، وسيصبح محمد الرشيد ملين وزيرا للدولة على رأس وزارة الوظيفة العمومية، وسيكون دور أساسي في بلورة قانون الحريات العامة، الذي يمثل القاعدة الأولى للتعددية السياسية والنقابية والثقافية والجمعوية، بالمغرب المستقل.
 
محمد الرشيد ملين بعيون النخبة الرباطية:
واعتبر عبدالاله التهاني أن مناسبة الندوة الفكرية، التي نظمتها جمعية رباط الفتح أواخر التسعينات من القرن الماضي، حول سيرة المرحوم محمد الرشيد ملين،  كانت من بين المناسبات النادرة التي أتاحت الفرصة لأبناء جيله، من أجل إلقاء الضوء على محطات بارزة من حياته وكفاحه الوطني، وكذا لإبراز جوانب مضيئة من نشاطه الفكري وإسهاماته الثقافية.

ولم يفت معد البرنامج أن يقف عند إسهام الباحث الأكاديمي الدكتور مصطفى الجوهري،  الذي عرف بتوثيق سير أعلام الحركة الأدبية والعلمية والوطنية بالمغرب عامة والرباط خاصة، إذ أشرف على إعداد كتاب صدر  في 98 صفحة، ضمن منشورات جميعة رباط الفتح، وضم شهادات عن المرحوم محمد الرشيد ملين، وتآليفه وكفاحه الوطني ومساره المهني في الإدارة المغربية، كتبها عدد من الأساتذة العارفين بسيرته، ساهموا بها في ندوة جمعية رباط الفتح حول هذه الشخصية، وفي طليعتهم عميد الدراسات الأدبية بالمغرب الأستاذ الدكتور عباس الجراري، ومنهم أيضا الأساتذة: محمد احميدة، مصطفى الجوهري، والشاعرين المرحومين مولاي علي الصقلي وعبد اللطيف أحمد خالص، وعبد الكريم بناني رئيس جمعية رباط الفتح، وعبد الكريم الشرقاوي، وعبد الواحد بنمسعود، ونور الدين بلحاج، ومحمد الكادلي، ومحمد الهريم.
 
صبيب القلم: 
وعن رصيده في مجال التأليف، أوضح عبدالاله التهاني بأن الأستاذ المرحوم محمد الرشيد ملين، قد ترك ثلاثة كتب، وهي كتاب "عصر المنصور الموحدي أو الحياة السياسية والفكرية والدينية في المغرب من عام 580 إلى سنة 595 هجرية" ، وقد طبع سنة 1946، ثم صدرت طبعة ثانية منه عام 1996، ثم كتابه الثاني  "نضال ملك" ، والذي يقدم نظرة عن تاريخ المغرب السياسي الحديث وسيرة وكفاح المغفور له الملك محمد الخامس، حيث صدر هذا الكتاب في جزأين عن المطبعة الملكية بالرباط سنة 1956، وأغلب محتوياته  هي في الأصل سلسلة أحاديث إذاعية، كان المرحوم محمد الرشيد ملين ، يلقيها من الإذاعة الوطنية بالرباط.

وفي ملطع الإستقلال، سيصدر المرحوم  ملين كتابه الثالث، وهو تحت عنوان "فصل الشتاء في أسّول"، وهذا الكتاب هو عبارة عن مذكرات حول فترة نفيه إلى قرية أسّول قرب كلميمة،  مع لمحات عن كفاحه الوطني من أجل استقلال المغرب. 

وإضافة إلى ذلك، أشار عبدالاله التهاني إلى المقدمة الطويلة التي كتبها المرحوم محمد الرشيد ملين ، وقدم بها كتاب "الفتوحات الإلهية في حديث خير البرية"، الذي ألفه السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، وأصدرته المطبعة الملكية عام 1945.
 
كما أورد ما ذكره العميد  الدكتور عباس الجراري عن تلك المقدمة ، حيث  اعتبر أن محمد الرشيد ملين أبرز فيها " عناية هذا السلطان بالحديث النبوي الشريف، وهي عناية بدأت بالإعتكاف مع بعض علماء عصره على صحيح البخاري، ومسلم وموطئ الامام مالك، واكتملت بالوقوف على مساند ابن حنيفة والشافعي وابن حنبل ، التي لم تكن يومئذ معروفة في المغرب". 
 
بعض من شهادات العارفين: 
وتوقف معد ومقدم البرنامج عند شهادة للاستاذ عبدالكريم بناني، اعتبر فيها أن " هناك سمة أخرى تميز هذه الشخصية عند مقارنتها بغيرها، ذلك أن محمد الرشيد ملين إلى جانب نضاله الوطني، كان صاحب قلم لاتضيق عليه مسالك العبارة ،وأن القارىء لكتاباته يمسك ببيان لائح وبرهان واضح، ويراعته تعرف كيف تخلص  الكلمة من الشوائب، وما تم له ذلك إلا لانه صاحب موهبة قاطنة".

وفي ذات السياق، استحضر عبدالاله التهاني، ما كتبه الأستاذ  مصطفى الجوهري، حول  كتاب "نضال ملك" لمحمد الرشيد ملين،  وكيف تعامل معه هذا الباحث برؤية الدارس الأدبي، باعتبار هذا الكتاب نموذجا للسيرة الغيرية التي تقابل السيرة الذاتية، أي السيرة التي يؤلفها الكاتب عن غيره.

وفي هذا الصدد، استعرض بعض خلاصات الاستاذ الجوهري حول أسلوب وهوية هذا الكتاب/ السيرة، وخاصة قوله " بأن كتابة السيرة الغيرية من خلال كتاب "نضال ملك"، تكشف للقارئ المتأمل ما اتسم به المرحوم محمد الرشيد ملين في كتابه هذا، من قدرات فنية تتجلى في حرصه على الترابط الدقيق، في عرض مراحل سيرة النضال والنهضة،  وفي وصف معالمها بلغة متينة سلسة، تعكس ثقافته الأصيلة، وبأسلوب ناصع متجدد، يمكن أن نسميه بالسهل الممتنع مما أضفى على تلك السيرة،  نكهة الإمتاع والمؤانسة".
انطط في سياق متصل، أورد عبدالاله التهاني، مقتطفات مما كتبه الدكتور محمد احميدة، وهو يستحضر المسار الفكري لمحمد الرشيد ملين، إذ اتجهت عنايته إلى التركيز على كتابه حول عصر المنصور الموحدي، وذلك من خلال قراءته التحليلية، وكذا استنتاجاته بخصوص الغايات العلمية والرسائل السياسية التي بعث بها مؤلفه، في ظرفية تاريخية جثم عليها الوجود الاستعماري الفرنسي بالمغرب.

وفي هذا الباب، استطرد معد ومقدم البرنامح مستعرضا،  فقرات أخرى مما ذكره الأستاذ محمد احميدة حين قال بأنه " قد يكون من وراء هذا الكتاب دافع تأريخي ، يسعى الكاتب من وراءه  إلى الكشف عن بعض الجوانب لفترة من تاريخ المغرب،  لدفع المهتمين إلى المزيد من البحث والكشف عن الغميس من الوثائق والنصوص، وقد تكون الغاية تعليمية تتجلى في تقديم بعض المعلومات بشكل مبسط لقارئ غير متخصص، وتقريب ما هو موجود ببعض المصادر الأساسية بتاريخ ذلك العهد،  وهي مصادر ربما لم تكن متيسرة للجميع. وقد تكون الغاية تربوية تهدف إلى تحبيب المادة التاريخية إلى نفوس الناشئة، من خلال تقديمها بأسلوب عصري، متحرر من الكثير من أدوات الصنعة البديعية. 

كما أشار إلى ما قاله الاستاذ محمد احميدة من " كون  القراءة المتأنية، والنظر في هذه الكتابة ضمن شروط إنتاجها، يجعلنا نميل إلى القول بأن الهدف الوطني،  كان حاضرا بقوة،  وشكل الخلفية الأساس لهذه الكتابة، وأن  صدور كتاب "عصر المنصور الموحدي" في تلك المرحلة التاريخية،  لابد وأن يحمل رسالة معينة، هي في صميمها ذات وظيفة وطنية، ومن تم تنكشف دلالات اختيار الكاتب لمرحلة تاريخية معينة هي فترة الموحدين. حيث يقدم محمد الرشيد ملين من خلال اختياره لعصر الموحدين صورة بهية لحضارة المغرب وكأنه يوجه خطابا للدولة الحامية فرنسا، ليقول بأن بلاد المغرب الذي تحتله فرنسا، ليس بلدا بدون حضارة. ومن ثمة فكل المحاولات الهادفة إلى نسف هويته وطمس ثقافته،  لن يكتب لها النجاح"، وفق ما يذكره الاستاذ محمد احميدة .
 
محمد الرشيد ملين وعصر المنصور الموحدي: 
وتوسعا في التعريف بكتاب "عصر المنصور الموحدي" لمحمد الرشيد ملين، أوضح  عبد الاله التهاني أن هذا المصنف يحتوي تمهيد وثلاث أبواب رئيسية، ضمت في مجموعها عشرة فصول، حيث خصص الرشيد ملين بابا للحياة السياسية في عصر المنصور، والحروب التي خاضها في شمال إفريقيا وإسبانيا، وبابا ثانيا لمظاهر الحياة الفكرية بالمغرب خلال نفس الفترة، ولاسيما في مجالات العلوم والآداب وعلوم اللغة، فيما خصص الباب الثالث والاخير للحديث عن الحياة الدينية في عهد المنصور.

وتوقف معد ومقدم برنامج "مدارات "، عند فصول كل باب على حدة، معرفا بمحتواها وما ورد فيها على لسان محمد الرشيد ملين، أو ما أحال عليه من كلام غيره، وخاصة ما ذكره  كتاب تراجم أعلام المغرب والاندلس عن الحقبة الموحدية من تاريخ المغرب.