
ونحن نعد هذا الملف الذي نتناول فيه حكاية سيوف «التشرميل« ورصاص عناصر الأمن، ونضع له العنوان أعلاه، تذكرنا ذلك البيت الشعري الخالد للشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي، الذي أنشده مفتخرا بنفسه وبقوته وشجاعته:
الخَيْلُ وَاللّيْلُ والبَيْداءُ تَعرِفُني // والسّيفُ والرّمحُ والقرْطاسُ والقَلَمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ والبَيْداءُ تَعرِفُني // والسّيفُ والرّمحُ والقرْطاسُ والقَلَمُ
في العنوان، وردت كلمة «القرطاس» جنبا إلى جنب مع كلمة «السيف»، كما في البيت الشهير. لكننا لا نقصد بكلمة «القرطاس» المعنى الذي قصده المتنبي في قصيدته؛ أي الكتاب، في إشارة إلى قدراته في الكتابة ونظم الشعر. وإنما قصدنا المعنى الذي يعطيه المغاربة لهذه الكلمة في الدارجة المغربية؛ أي رصاص السلاح الناري. السلاح الذي يضعه القانون بين أيدي عناصر الأجهزة الأمنية، من أمن وطني ودرك ملكي وجمارك، من أجل الاستعمال الوظيفي، كلما اقتضى الأمر ذلك.
لكن لماذا نتحدث عن «محنة» البوليس، وهو الحامل للسلاح؟
هذا ما تجدون الجواب عنه في هذا الملف.
لكن لماذا نتحدث عن «محنة» البوليس، وهو الحامل للسلاح؟
هذا ما تجدون الجواب عنه في هذا الملف.
فمنذ اهتدى الإنسان إلى إقرار قانون ينظم العيش المشترك، ويؤسس لمنطق المدنية بين الأفراد والجماعات، وهذا القانون تتنازعه إرادات القبول والرفض، أو الانضباط والتمرد. ومن ثم، لجأ الإنسان مجددا إلى ما من شأنه توضيح حيثيات ذلك القانون، وتفصيله على مقامات التفاعل مع ما يجري في الواقع. ولعل هذا هو الدرس الأول في فلسفة القانون التي تطورت مع القرون لتضعنا اليوم أمام منظومات قانونية وحقوقية كونية مقابل أخرى محلية.
ومن ثم، نشأ كذلك التكامل أو التنافر بين ما هو كوني ومحلي خالص. وعلى ضوء ذلك، تصاغ القوانين، وتحدد بنودها وآلياتها.
وبالنسبة إلى موضوع هذا الملف، فلقد كان الباعث المباشر إليه تنامي وتيرة الجريمة العنيفة وما صاحبها، بشكل خاص، من مظاهر حديثة اصطلح عليها في المتداول الشعبي باسم «التشرميل» الموجه نحو المواطنين بشكل عام، وأساسا نحو رجال القوة العمومية، سواء في صف الأمن الوطني، أو الدرك الملكي، أو القوات المساعدة، أو غيرها من الفروع والروافد ذات الاختصاص المتشابه.
بارتباط مع ذلك، أصبح كل احتداد لمنسوب هذا «التشرميل» وإشهار المجرمين للسيوف والسواطير والآلات الحديدية الحادة في فضائنا العمومي يتوازى مع الجدال حول المعنى القانوني لمواجهة هذا العنف الصادر من هؤلاء المجرمين تجاه الشرطة والدرك والقوات المساعدة وغيرهم. ولقد استفحلت الظاهرة وردود الفعل حولها مع تكاثر وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تنقل تفاصيل «الجنوح» والاعتداء حتى صار يخيل إلينا كما لو أن هؤلاء «المشرملين» صاروا يرون أنفسهم «أبطالا» في أفلام الرعب.
ثم تتضاعف «البطولة» بفعل عوامل أخرى مختلفة. بعضها يعود إلى اختلال الوضعية النفسية العقلية لهؤلاء «المشرملين»، وبعضها يعود بدون أدنى شك إلى رغبة هؤلاء في تكريس تلك «البطولة» بين أبناء الحي وفي أوجه المواطنين، ورجال القوة العمومية أنفسهم باعتبارهم ممثلي السلطة وأدواتها.
لنترك الجانب النفسي والعقلي في المسألة، ولنركز بشكل خاص على الأساس الشرعي والقانوني المفترض وجوده للتعاطي مع هذه الظاهرة، إذ يتبين أن النص القانوني المغربي لا تزال، إلى حد الآن، تتخلله بياضات تحد من تدخل القوة العمومية باعتبارات قانونية دقيقة...
أما مسوغ هذ الحد، كما يطرح لدينا ولدى منظومات قانونية في عدد من البلدان، فيرمي إلى أن القانون ليس فقط أسمى ناظم للعلاقات بين المواطنين في مواجهة القوة العمومية، ولكن كذلك لأن سلامة المواطن وكرامته وحقه في الحياة هي كذلك الأسمى.
إزاء ذلك، ماذا بوسع رجل شرطة أو دركي أن يعمل أمام «مشرمل» يشهر سلاحه الأبيض «أو كلبه الشرس» في وجه الجميع، فيما القانون يضيق هامش معالجة الوضع بالاستعمال المباشر للسلاح الناري. والجواب المباشر هو عجز القوة العمومية على رد الفعل وخوف عناصر الشرطة والدرك من «التجرجير» الإداري والقضائي بعد كل استعمال للسلاح الوظيفي لتحييد الخطر الذي كان يهدد المواطنين بل وكان يهدد عناصر القوة العمومية أيضا.
في مثل هذه الحالة، يتمايز خطابان في قضية استعمال أفراد القوة العمومية للسلاح الوظيفي لشل حركة مجرم «مشرمل»:
ــ الأول يرافع من أجله الطوباويون المستندون إلى النصوص المؤسسة، سواء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه»، كما في المادة 4، أو التأكيد على أنه «لا يجوز حرمان أحد من حياته»، كما في المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ــ أما الخطاب الثاني، فيصدر تلقائيا عن مواطنين يرون أن لا مبرر لذلك العجز. إذ كيف يصبح التمسك المطلق بأطروحة حقوق الإنسان معقولا أمام «اللاعقل»؟ وكيف يظل الضمير الجمعي متغاضيا عن سقوط هيبة السلطة العمومية التي صارت تظهر «مبهدلة» أمام مجرمين «مقرقبين» غير واعين ولا مسؤولين، لا يهددون فقط سلامة المواطنين والفضاء العام، بل هم يهددون عناصر الشرطة أو الدرك لدى تدخلهم لحفظ النظام والأمن.
إن مساعي هذا الملف الدعوة إلى تجديد آليات النظر القانوني بخصوص الموضوع المطروح على اعتبار أن سلامة المواطنين هي جزء لا يتجزأ، فلا يمكن القبول بها في حق فئة دون أخرى. ثم إن منظومة حقوق الإنسان هي منظومة كل روافد هذا الإنسان.
ــ الأول يرافع من أجله الطوباويون المستندون إلى النصوص المؤسسة، سواء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه»، كما في المادة 4، أو التأكيد على أنه «لا يجوز حرمان أحد من حياته»، كما في المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ــ أما الخطاب الثاني، فيصدر تلقائيا عن مواطنين يرون أن لا مبرر لذلك العجز. إذ كيف يصبح التمسك المطلق بأطروحة حقوق الإنسان معقولا أمام «اللاعقل»؟ وكيف يظل الضمير الجمعي متغاضيا عن سقوط هيبة السلطة العمومية التي صارت تظهر «مبهدلة» أمام مجرمين «مقرقبين» غير واعين ولا مسؤولين، لا يهددون فقط سلامة المواطنين والفضاء العام، بل هم يهددون عناصر الشرطة أو الدرك لدى تدخلهم لحفظ النظام والأمن.
إن مساعي هذا الملف الدعوة إلى تجديد آليات النظر القانوني بخصوص الموضوع المطروح على اعتبار أن سلامة المواطنين هي جزء لا يتجزأ، فلا يمكن القبول بها في حق فئة دون أخرى. ثم إن منظومة حقوق الإنسان هي منظومة كل روافد هذا الإنسان.
مجمل القول إننا إذ تطرح هذا الملف، فلأننا نعي أننا إزاء موضوع إشكالي متشعب الاعتبارات والمناحي، مثلما نعي بأن هذا التحدي القانوني يواجه مجتمعات أكثر عراقة في البناء الديموقراطي، حيث البياضات داخل النص القانوني هناك تصطدم مع أطروحة حقوق الإنسان. عشنا ذلك خلال بعض تدخلات الشرطة الأمريكية لتطويق الانفلاتات، إذ يحصل أن يتدخل شرطي في واقعة إجرامية ما ينتج عنها وفاة شخص، فتصبح الواقعة قضية رأي عام تليها محاكمة الشرطي وإيداعه السجن. وفي دول أوربية كذلك خاصة .
حيث توبع رجال شرطة بعد أن تدخلوا لفك لحظات عنف مجرمين بهذه الدولة او تلك، وهو ما أصبح هو كذلك قضية رأي عام.
لكن ذلك، ومع كل كثافة الارتباك أو التقصير، لا يمنع من تأكيد أن الأمر يستوجب التدخل القانوني السريع بما يضمن تحصين تدخل أعوان القوة العمومية أثناء استعمالهم السلاح الوظيفي ضد كل جانح رفض الامتثال للقانون وهدد أمن المواطنين بسيف أو «شاقور» أو كلب شرس، وبما يجعل النص القانوني مستوعبا لكل المستجدات الطارئة التي يطرحها الواقع اليومي العنيف اليوم حماية لأرواح المواطنين وحفظا للأمن والنظام العامين ضد كل من سولت له نفسه امتطاء صهوة «التشرميل»، ولو اقتضى الأمر تبني سياسة «صفر تسامح» La tolérance zéro مع هؤلاء «المشرملين».
يظهر إذن أن لا علاقة إذن لقرطاس المتنبي بقرطاس ملفنا. وإذا كان قرطاس المتنبي سببا في مقتله، كما تفيد سيرة حياته التي تقول عن هذا البيت إنه «البيت الذي قتل صاحبه»، فإننا لا نريد لسلاح رجال الأمن أن يكون سببا في «هلاكهم» المهني والقضائي.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
