الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: "كلب الست" وحكاية مرزوق

عبد الصمد الشنتوف: "كلب الست" وحكاية مرزوق عبد الصمد الشنتوف
طالعتنا جريدة "لفيرداد" الإسبانية بخبر مفاده أن مهاجرا مغربيا اعتدى على كلب وديع، فأصابه بجروح بليغة. لازالت الشرطة تتعقب الجاني، لكن عبثا لم تحصل على أثر، لذا قامت بتعليق صور المجرم على ملصقات الحائط مكتوب عليها "مطلوب للعدالة". الرأي العام غاضب. المجتمع المدني يرى أن الشرطة متقاعسة. لابد أن تتحرك لتخفيف الاحتقان. هذا مقرف.
لا أدري لماذا أربط دوما بين حكاية "كلب الست" وحكاية مرزوق، بغض النظر عن اختلاف الزمان والمكان، ومع الفرق الشاسع بين البطلين. تشبيه قد يبدو غريبا، لكن المفيد يكمن وراء استخلاص العبر.
بينما كان الطالب إسماعيل يتجول أمام إقامة أم كلثوم باغتته هجمة شرسة من طرف كلب هائج غرس أنيابه في فخذه الأيمن، نقل على إثرها إلى المستشفى، أعقبها بعد ذلك بزيارة مخفر شرطة لتحرير شكاية ضد صاحبة الفيلا، وبما أن الكلب هو كلب أم كلثوم فقد تم الإفراج عن الكلب والإبقاء على الضحية حتى يتم مساومته وتهديده، ثم إرغامه على التنازل عن قضيته وطمس الملف.
الغريب في الأمر، أن الضحية راح يلوم نفسه على تواجده قرب الفيلا، وفي الوقت ذاته أضحى يتفاخر أمام الصحافة بعضة كلب "كوكب الشرق" في تصريح مقزز، وكأنه مواطن مازوشي يستلذ سياط جلاده. هذا الموقف استفز كثيرا شاعر "الغلابة" أحمد فؤاد نجم، مما دفعه إلى كتابة قصيدة شهيرة شغلت الدنيا والناس بعنوان "كلب الست"، يهجو فيها أم كلثوم بسبب كلبها الوقح.
مثل هذه الأحداث غالبا ما تقع في بلد متخلف يديره حاكم مخبول مصاب بجنون العظمة أو البواسير على حد تعبير صحفي معروف. الحديث هنا سيأخذنا بعيدا للغوص في متاهات السياسة، وأنا لا أرغب في ذلك.
مرزوق مهاجر سري، متوسط القامة، تعلو وجهه تقاسيم عربية بارزة. حل بكاطالونيا منذ بضعة أعوام هاربا من ملاحقة الشرطة على إثر جرم ارتكبه بمدينة مرسية شرق الأندلس.
يحكي قائلا: ذات يوم، بينما كان يتمشى على ضفاف نهر سيجوارا، رفس بالخطأ كلبا قصيرا مصوفا من فصيلة الكنيش يعود لفنان اسباني مغمور. فانتفض غاضبا معيرا مرزوق بالمورو القذر. عنصري متشبع بأفكار اليمين على الأرجح. استعر الغيظ في قلب مرزوق وأحس بالإهانة. لم يتمالك أعصابه، فأقدم على تسديد ركلة رهيبة للكلب بقدمه اليمنى، كما لو كان لاعبا يسدد الكرة بقوة في شباك خصمه. طفق الكلب المدلل يولول مصابا بكسور خطيرة في أضلعه، فيما ظل الإسباني يصرخ صرخة موجعة، جعلته يدرف الدمع من شدة الحزن والكمد. حضر الإسعاف على الفور لينقل الكلب إلى مصحة الحيوان، وبعد لحظات حضر البوليس لتقصي الأمر، وإلقاء القبض على الجاني، ما لبث أن تبخر مرزوق بسرعة البرق من مكان الحادث متواريا عن الأنظار. ومنذ ذلك الحين، وهو مطارد من العدالة، ويعيش متخفيا في برشلونة، منتحلا صفة رجل غجري يعزف على القيتارة عزفا باهرا في الساحات والحانات.
كان الطقس ربيعا. خرجت من نفق المترو لاهثا. لفح وجهي هواء ساخن، لتصافح عيناي ساحة بلاصا اسبانيا التاريخية. ساحة تشكل قلب برشلونة النابض، ونقطة وصل بين المدينة العتيقة والجديدة، شهدت مراسم افتتاح أولمبياد 1992.
وأنا أتجول تحت أشعة الشمس الحارقة، لاحت لي قصور وقلاع حجرية وبيوت عتيقة. ازدادت دهشتي عندما شاهدت برجي البندقية الشامخين المؤديين إلى نافورة سحرية يتوسطها نصب تذكاري عملاق، تحيطه تماثيل برونزية منحوتة لثلاث فتيات يحملن قدور الماء فوق رؤوسهن. حقا، ساحة جميلة تشد الأنظار، تتقاطع فيها شوارع فسيحة، كما أنها تعد مركزا رئيسيا للنقل، تتفرع منها قطارت وباصات نحو مختلف أرجاء المدينة.
لبثت أسير على مهل، حتى صادفني صرح معماري أخاذ، مستدير الشكل، ضخم الحجم، يحمل إسم أريناس، كان على ما يبدو حلبة لمصارعة الثيران سابقا، ليتم تحويله لاحقا إلى مركز تسوق باذخ يضم جميع الماركات العالمية من ملابس، مطاعم، وعطور فرنسية.
يسار بهو مركز أريناس للتسوق، يقف مرزوق بقبعته الغجرية متألقا، عيناه تبرقان توهجا وذكاء، يحمل قيتارة كلاسيكية بنية معلقة على صدره، يداعب أوتارها بأنامله الساحرة، مرددا أغنية باكو دي لوسيا الشهيرة "بين المائين". إذا رمقته خلته شابا أندلسيا نشأ في حي البيازين بغرناطة، ولن يخطر ببالك أنه ينحدر من إحدى قرى المغرب العميق. لعله خلف وراءه حلما صغيرا لم يكتمل بعد، قبل تسلقه مركب الهجرة نحو القارة العجوز فرارا من يأس قاتل وفقر مدقع، بحثا عن حياة أفضل لتحقيق ذاته وحلمه.
يبدأ عزفه بشكل خفيف خافت، سرعان ما تتصاعد إيقاعاته شيئا فشيئا، وهو يرفع رأسه إلى السماء، متمايلا في حركات دافئة. يلفت أنظار الرواد والمتسوقين بطبقات صوته الشجي. من الوهلة الأولى مذ أبصرته، وقع في ذهني بأنه ليس إسبانيا، ذلك أن المغاربة يتشممون بعضهم بعضا عن مسافة بعيدة ببلاد الغربة. غمزني متبسما في وجهي، تبادلنا نظرات فضولية وحذرة، وكأن حال لسانه يقول: أعرف أنك قد عرفتني، حيلتي لن تنطلي عليك رغم تقمصي شخصية غجري متمرد. كان يؤدي وصلات غنائية بإتقان وبراعة. عاشق للفلامنكو، نغماته تملأ الفضاء بهجة، وتهز كيان المتفرجين.
قلت في نفسي: لا أدري لماذا المغاربة يصيرون أكثر إبداعا حينما يعبرون البحر نحو الضفة الأخرى.
عندما أشاهد مرزوق يعزف على قيتارته، أتذكر كل تلك الأيام التي قضيتها متسكعا في شوارع وساحات لندن، وأرى شبابا موهوبين يصعدون القطارات بقيتاراتهم لأداء أغان البلوز والبوب، ليجود عليهم الركاب بجنيهات معدودات. كما أذكر تلك الشقراء البوهيمية التي كانت تعزف على الساكسفون بساحة ليستر سكوير رفقة كلب بدين يجيد الرقص، ويطوف بين الناس مرتديا شورتا أحمر.
طافت بي ذاكرتي وحلقت في ثنايا الماضي، زمن الطفولة البعيدة، حين كنت طفلا صفيقا أركض وراء الكلاب بخلاء مقفر يدعى"جنان فرنسيس". لم تكن لدينا فضاءات للعب والترفيه، لذا كنت أتسلى بمطاردة الكلاب والقطط وأقذفها بالحجارة، معتقدا أنها حيوانات بلا روح تستحق الضرب والتنكيل. لكن لما كبرت واشتغلت بالريف الانجليزي رممت علاقتي بالكلاب وتصالحت معها. نسجت علاقة ود وصداقة مع لولو كلب صاحبة الضيعة.
للأسف، مرزوق لم ينل شيئا من ثقافة الرفق بالحيوان، بصرف النظر عن عيشه بإسبانيا منذ زمن طويل، وهذا واضح من خلال تعنيفه المروع لكلب بريء، ذنبه الوحيد أنه كان يتجول مع صاحبه بضفاف نهر مرسية.
ربما مرزوق لا علم له بعشرات الثيران الذين قضوا نحبهم تحت ضربات سهام الماتادور القاتلة، داخل مركز أريناس الباهر حيث يؤدي أغاني الفلامنكو إسعادا للزبناء. كما أستبعد أن يكون قد سمع بحكاية كلب الست الذي عاش حرا منعما في حضن أم كلثوم، على الرغم من عضاته المؤلمة لمواطنين أبرياء...
 
يتبع