الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الجليل أبوالمجد: السياسيون المغاربة بين الأمس واليوم

عبد الجليل أبوالمجد:  السياسيون المغاربة بين الأمس واليوم عبد الجليل أبوالمجد

يتميز المشهد السياسي المغربي العام بوجود أكثر من ثلاثين حزبا سياسيا يشتغلون في إطار نظام ملكي يوصف عادة بالاعتدال، والتوازن، والوسطية في الحوار والتعامل مع مختلف التيارات والأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها ومرجعياتها.

قبل التطرق للموضوع يتعين الإشارة في البداية، أن الدساتير المغربية منذ أول تجربة دستورية سنة 1962، قد أعطت مجموعة من الامتيازات الدستورية، والقانونية، والمادية للأحزاب السياسية، لكي تقوم بدورها السياسي المنوط بها، بهدف خلق دينامية داخل المشهد السياسي، من خلال تنافس البرامج وتقديم القوانين والمقترحات، وبالتالي مسايرة تطلعات المواطنين واهتماماتهم، من خلال الدفاع عن قضاياهم، ومعالجة مشاكلهم وهمومهم الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية.

لكن رغم كل المكتسبات التي جاءت بها الدساتير المتعاقبة لصالح الأحزاب السياسية في المغرب، إلا أن الممارسات السياسية والحزبية لم تخلق تطورا أو تفاعلا مع تلك المستجدات، لاسيما في السنوات العشر الأخيرة، التي عرف فيها المغرب أحداثا جمة أثرت على شكل الممارسات السياسية والحزبية، منها ذو الأثر الإيجابي ومنها السلبي. لتشخيص سبب وصول المغرب لهذه المرحلة من الجمود يتعين الرجوع للأسباب، والبواعث فما هي يا ترى أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الحال؟ وهل يمكن للأحزاب السياسية أن تتطور دون إصلاح سياسي؟

إن التأمل في التاريخ السياسي للدولة المغربية منذ تأسيسها وعبر المراحل السياسية والزمنية المختلفة يخلص إلى أن الفرق كبير بين سياسي الأمس واليوم.  بالأمس البعيد كان السياسيون والأحزاب عامة، يتميزون بالانتماء للوطن وبالجرأة في المواقف وتقديم مصالح البلاد و على المصالح الذاتية والحزبية والفئوية، وكانوا يكافحون من أجل المستقبل التنموي المنشود ويحلمون ببناء دولة وطنية عصرية تحترم أدمية الانسان.

وهكذا بعد الاستقلال، لاسيما في السنوات الأولى ظهرت أسماء سياسية بارزة لعبت دورا كبيرا في تاريخ المغرب المعاصر من أمثال عبد الله إبراهيم، وأحمد بلافريج، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم كثير وكثير. هؤلاء جميعا كانوا يشكلون جيل الطليعة السياسي الذي استوعب العمل السياسي وآلياته، ووظفها من أجل بناء الوطن ومناهضة كل مساس بواجباته وبحقوقه عملا بالمقولة الشهيرة لروائي الروسي/العالمي ليو تولستوي: "لا ينبغي لنا أن نحب الوطن حبا أعمى، فلا نرى عيوبه ولا نسعى لإصلاحها أو مواجهتها في الواقع".

وعلى الرغم من أن علاقات هذه الشخصيات الفذة كانت تشهد حالات من التوتر مع النظام السياسي بسبب اختلاف الرؤى من بعض القضايا، لكنهم جميعا كانوا متفقين على حب الوطن ملتزمين بالصدق والوضوح في التصدي لأهل الفساد، والجرأة في كلمة الحق، ولم يكونوا انتهازيين ومتملقين، ولم يكونوا من الذين يلعبون على الحبال. كما لم يكونوا مدفوعين وراء أهوائهم ونزواتهم، وكانوا يجمعون بين الأخلاق والسياسة وكلاهما يستهدفان رؤية تجعل لحياتهم هدفا ومعنى ... هؤلاء الرجال والنساء هم الذين صنعوا الحياة ورسموا بدمائهم خارطة طريق لوطن حر، لكن للأسف الشديد شوه ذلك التاريخ من قبل أقزام السياسة الذين جاءوا بعدهم، لاسيما أولئك الذين انتهزوا الفرصة واستولوا على ثمار احتجاجات الربيع العربي المشؤوم لسنة 2011.

اليوم، أصبح المشهد السياسي/الحزبي يعاني، وإن بنسب متفاوتة، من غياب السياسي الصادق والقادر على تمحيص القضايا الوطنية من كافة جوانبها، والقدرة ليس فقط على الاختلاف في الرأي، ولكن أيضا عن التعبير عن هذا الاختلاف بوضوح وجرأة، حتى وإن أدى ذلك إلى استياء صاحب القرار. فالاختلاف في الرأي ظاهرة صحية للغاية، بل ركيزة أساسية في عملية صنع القرار المستنير الذي لا يعتمد على رأي شخص أو جهة معينة أو تيار دون غيره. هناك عبارة شائعة الاستعمال تقول "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية".

لكن في الوقت الراهن السياسيون المغاربة يفتقرون إلى الصدق والجرأة ومنشغلون بالمصالح الآنية والسعي لاكتساب الثروة والطمع في أي شيء (تذاكر فضيحة قطر وامتحان ولوج المحاماة). كل يبخس من الآخر ويسعى للاستقواء عليه بالمال أو الدين أو الخارج، في مناخ يتسم بتبادل الاتهامات والصراعات الفارغة، الأمر الذي عمق فقدان ثقة المغاربة في سياسيين وأحزاب تتنفس بصعوبة، بعضها مريض ومنهك لا أفق له، وبعضها ينتظر الحصول على الدعم المالي من الدولة، وبعضها تائه يعزف على أوتار المشاعر الوطنية القديمة، والبعض الآخر لا شغل ولا هم له غير التربص وافتعال الأزمات، وبعضها ديني شعبوي مفلس يحاول دائما دغدغة المشاعر الدينية، فتم إفساد الدين والسياسة معا. وهكذا ضاعت مصالح الناس وتفاقمت مشاكل المغاربة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. 

والسؤال المطروح بإلحاح هل يمكن بناء مجتمع عصري عادل يضمن التنمية وتكافؤ الفرص والكرامة الإنسانية بأحزاب سياسية، تفتقر للديمقراطية الداخلية والفكر الراجح، وتتنكر للمبادئ الأخلاقية التي سطرها الزعماء المؤسسون بدمائهم الطاهرة ونزعتهم الوطنية الخالدة، وتتخلى عن وظيفتها الأساسية: التأطير والتكوين وتمثيل الناخبين والمساهمة في ممارسة السلطة! ؟

هكذا مشهد سياسي لا يمكن أن يستمر طويلا، خاصة مع قلة الموارد وتراكم الأخطاء وزيادة حالة الاحتقان والهشاشة والبطالة... من هذا المنطلق تبدو الحاجة ملحة لإصلاح سياسي يبدأ بتفعيل الحياة الحزبية كخطوة أولى، بهدف تغيير حالة الإحباط السائدة وحل مشاكل المتعطلين عن العمل. وهذه المحاولة هي صعبة للغاية، وتحتاج إلى جهد كبير لكنها غير مستحيلة، إذا ما توفرت الإرادة والصدق لتحقيق الإصلاح الفعلي المنشود. فالسياسة فن الممكن وأخلاق وليست التلون والحرمنة.

آخر الكلام المغاربة لم يعودوا  بحاجة إلى من يصدع أدمغتهم بمزيد من الشعارات الدينية والوطنية، بقدر حاجتهم الماسة إلى كل سياسي صادق الوعد قوي الشكيمة لا يخاف في الله لومة لائم، أو اغراء من كرسي. والمغاربة سيتحزبون إذا آمنوا بجدوى الأحزاب وبرامجها. وحتى ذلك الحين، ستظل الحياة السياسية تدفع ثمن الخواء الفكري والبرامجي، وسيظل المغرب بلدا بلا أحزاب ملتزمة ومواطنة وديمقراطية.

هذا غيض من فيض، مجرد لمحة خاطفة لا تعبر بتفصيل عما يجري في المشهد السياسي/الحزبي المغربي الراهن.