الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

سميرة مسرار: رحلتي الأولى إلى جنيف

سميرة مسرار: رحلتي الأولى إلى جنيف سميرة مسرار

منذ صغري وأنا أحلم ببطاقة سفر مفتوحة تتيح لي المجال للرحيل بين مدن الضباب والمطر: لندن ... باريس ... جنيف ...! لم أكن أبدا مثل بنات جنسي أعشق الذهب والملابس الفاخرة وفيلا تعانق البحر، ولست أدري لماذا كبرت وأنا أحب السفر والسيارات التي تجعلني أسابق الريح إلى عوالم الجمال.

رغم زيارتي لعدد من المدن الأوربية، إلا أنني عندما وصلت إلى جنيف أحسست أن جزءًا كبيرًا من حلمي يتحقق، ضاعت عيوني بين أزقتها وسكانها تبحث عما ينقصها، تقاذفتني الشوارع والممرات لساعات طويلة... كانت روحي تهيم شاردة لا تدري أين هي؟ مرة كنت أركب قطاراتها النظيفة الجميلة الدقيقة المواعيد كساعاتها الدقيقة، ومرة كنت أبحث عن متاحفها الرفيعة وحدائقها الفسيحة، حتى وصلت أمام بحيرة جنيف الشهيرة، فركبت قاربا لم أعرف إلى أين كان يتجه، وكنت أجهل كل شيء عنه ما عدا رقمه «3»، ربما اخترته لهذا السبب لأن هذا الرقم هو الشهر الذي ولدت فيه.

وأنا أبحث عن مكان للجلوس على متن القارب، وقعت عيناي على منظر بديع على ضفة البحيرة، سحرني فجلست لأتأمله أكثر، وبدون قصد لمست سيدة كانت بجانبي، اعتذرت لها بسرعة والتفت خائفة من أن تضيع مني تلك اللحظات وتغيب عيوني عما تراه، كان المنظر خلابا دفعني إلى تصوير شريط فيديو لأحتفظ بسحر اللحظة إلى الأبد.

وصلت إلى الضفة الجنوبية من البحيرة؛ ولسبب أجهله، لا حظت أن معظم المصطافين بمدينة جنيف بالذات يلتصقون بجزء صغير منها، أي أنهم يتحركون في رقعة محدودة. كانت هناك مقاعد خشبية عديدة وطاولات ممدودة لمن يشاء تناول طعامه الذي أعده في بيته أو اشتراه في عين المكان. لم تُتح لي الفرصة من قبل لأنعم بجلسة أكثر راحة وجمالا في هذا المنتزه المجاني الذي يقع على نقطة تقاطع بين النهر والبحيرة، يجد فيه الثري والفقير على حد سواء نصيبهما من جمالياته. داخل هذا المشهد هناك من يجلس ليحلم، وهناك من يسبح على ضفاف البحيرة هروبا من حرارة صيف غشت بحثا عن برودة الماء العذب.

أعادني إلى الواقع نباح كلب كان يجلس أمام رجليّ صاحبه، نظرت إليه معاتبة رافضة الرجوع إلى الواقع والتخلي عن المشهد الماثل أمامي. كانت سيدة تجلس بجانبي، أحست بتوتري، حاولت تهدئتي بكلمات إنجليزية لم أفهمها، سألتها إن كانت تتحدث اللغة الفرنسية، أجابتني بانحناءة رأسها ثم دخلت معي في حوار وكأنها تعرفني منذ سنوات:

- لا تخافي من الكلاب التي ترافق أصحابها، إنها لا تؤذي!

- لم أخف، فقط أثارني نباحه...

- هل أنت فرنسية؟

- لا، أنا مغربية.

- أنا أثيوبية، أصولي إفريقية كما ترين، أعيش في جنيف منذ مدة، جنسيتي سويسرية.

فعلا، ارتحت لهذه السيدة لعفويتها وطيبوبتها، إنها ذات بشرة سوداء وقلب أبيض، جميلة وأنيقة بفستانها الأزرق وشالها الحريري، تبدو في عقدها السادس. أمعنت فيها النظر وابتسمت قائلة:

- تشرفت سيدتي...

- قالت:

- الشرف لي، وأنت هل تقيمين هنا؟

- لا، أنا في زيارة قصيرة إلى جنيف لمدة أسبوع وسأعود إلى المغرب.

- هل زرت متاحف وحدائق المدينة؟

- لا، سيدتي، هذا يومي الأول، وصلت بعد الظهر.

- إلى أين ستذهبين؟

- لا أدري، لدي بطاقة مفتوحة لجميع وسائل النقل العمومي، بدأت بالتجول منذ ساعات لاكتشاف المدينة.

ضحكت، تأملتني قليلا كأنها تفكر، قالت:

- عندما ننزل، الأفضل أن تأخذي الحافلة رقم اثنين إلى محطة مولار « MOLARD »، من هناك تبدأ المدينة القديمة، ستجدين المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم. اليوم السبت ستغلق المحلات في السادسة، والأحد عطلة. يمكنك أن تستغليه في جولة بالبحيرة أو الحديقة الإنجليزية، كما يمكنك أن تتجولي خارج جنيف، متى ستسافرين؟

أجبت مبتسمة:

- في نهاية الأسبوع. شكرا لك على كل هذه التوضيحات، أنت أفضل من التقيت بهم، وهذا من حظي.

- الشرف لي، هل جئت وحدك؟

- نعم، أنا في زيارة عمل.

- في مقر الأمم المتحدة؟

- نعم.

- ممتاز! عندي بعض الوقت قبل الرجوع إلى مسكني في الناحية الأخرى من المدينة، إذا أحببت نقضي ساعة معا أعرفك فيها على جانب من بجنيف.

استغربت كثيرا من عرضها، وعلى الرغم من ذلك رحبت بالفكرة، اقترحت أن تكون مرشدتي خلال هذه الساعة وتركت لها حرية اختيار المكان.

رجعت إلى تصوير النافورة التي كنا مرنا قربها بالقارب وأنا أتأمل جمال المدينة، لم آخذ كلام السيدة الستينية محمل الجد، بل قلت هو كلام مدهون بالزبدة سيذوب عند الوصول إلى الضفة.

كانت رفيقتي السيدة الجميلة مصرة على التجول معي، أخذنا الحافلة إلى المدينة القديمة، ظلت تعرفني طوال الطريق على المناطق التي كنا نجتازها وتساعدني على حفظ الأمكنة لإعادة زيارتها من جديد.

أثر في سخاؤها وخلقها، ثم إنني قلت في نفسي ما سر هذه المرأة القصيرة القامة السوداء البشرة لتكون بهذا الجمال وهي على مشارف نهاية عقدها السادس، وبهذه الجاذبية والأناقة التي يؤهلها لها فستانها الكلاسيكي، هذا اللباس الذي يعكس ذوقها الرفيع وقدرتها على اختيار الألوان. لقد ارتبطت ذاكرتي دائما بلونين لصيقين بالأفارقة هما الأحمر والأصفر، فالأول رمز لإثارة الثيران والثاني يعكس أشعة الشمس في القارة الأفريقية.

بعد نزولنا من الحافلة، تجولنا بين المحلات والمقاهي وتبادلنا الحديث عن الأماكن السياحية بالمدينة، صدفة التقت السيدة الإثيوبية بصديقة لها كانت تجلس بمقهى معظم طاولاته في شارع مخصص للمقاهي والمشي بالقرب من مركز تجاري كبير؛ قدمت لها التحية وطلبت منها الجلوس لتناول مشروب. صديقتها عكسها تماما، بيضاء البشرة بعيون زرقاء، أنيقة، ملامحها تؤرخ لجمال فقد عبر الزمن. التفتت إلى رفيقة القارب، خيرتني بين الجلوس معهما وأخذ قهوة أو متابعة المشي.

وافقت على الجلوس معهما، كان الفضول يقتلني لمعرفة ما هو المشترك بينهما، وكيف جاءت هذه الإثيوبية إلى جنيف واستقرت فيها وأصبحت بهذه الأناقة، حبي لمعرفة بعض التفاصيل جعلني أوافق على الجلوس وأنا أتأمل التناقض بينهما، سمراء جميلة وبيضاء فقدت جمالها، كنت كأنني أجلس أمام كأسين: واحدة قهوة تشع وأخرى حليب باهت.

تبادلنا الحديث، معظمه كان تساؤلات عني، حاولت أن أجيب بتحفظ وأنا أقول في نفسي أنا التي يجب على أن أسألهما عن حياتهما وصداقتهما، إلا أن الوقت لم يسعفني، ولكنني عرفت اسم السيدة الأثيوبية. قلت:

- «سينين!» إنه اسم الجبل الذي كلم الله فيه نبيه موسى.

قالت:

- نعم، ومعناه في لغتنا الحسن.

استيقظت يوم الأحد على أجراس كنيسة نوتردام «NOTRE DAME» بمنطقة كورنافان« Cornavin » قريبا من الفندق التي كنت أقيم فيه، تزينت ثم ذهبت لاستكشاف طقوس العبادة عند المسيحين، حضرت القداس وخيل لي أنني أسافر عبر الزمن في حضرة القديس بطرس!

بعد الظهر، اتصلت بي السيدة الأثيوبية، التقينا، حكت لي هجرتها بسبب الأوضاع السياسية في بلدها، وعن عملها كمحامية في هيئة لحقوق الإنسان، ثم حدثتني عن زميلتها السويسرية من أصل دانماركي، جمع بينهما العمل الجمعوي لفائدة اللاجئين الأفارقة. قالت لي ونحن نتعانق للوداع:

- حلمي أن أزور المغرب، حدثني عنه أوروبيون كثيرون. عندنا في سويسرا بحيرة وبضعة جبال، أما المغرب فبحار ووديان وجبال وصحاري، هكذا قالوا.

تأثرت لكلامها، قلت:

- مرحبا، ستجدين في بلدي أكثر مما تصفين!

سألتني:

- لماذا تستمر حضارة المغرب منذ آلاف السنين؟

أجبت:

- تلك قصة طويلة...

شردت بعض الوقت، عدت بذاكرتي إلى تاريخ المغرب العريق. نعم، جنيف جميلة، ولكن فاس سيدة الجمال.

قلت:

-أثيوبيا الإنسان وأثيوبيا الأديان! نحن هنا، أنت وأنا، تتعانق فينا الحضارات...

وافترقنا!

مضت على إقامتي ستة أيام بجنيف، رأيت خلالها جمال الطبيعة وسكينة المنتزهات وذوق المتاحف وترتيب الشوارع وهدوء الناس، باختصار رحلت إلى عوالم الجمال وطيبوبة الوجوه التي تصادفها وتصادفك دون موعد، تبتسم لك وهي ترشدك وتساعدك في تكوين جمل أسئلتك. بدا لي أن الناس اعتادوا على الأجانب وتعودوا على سماع اللغات خاصة وأنهم يتكلمون بلغتين، جرمانية وفرنسية في احترام تام لا تبعثره الانفصالية اللغوية التي توجد في كثير من البلدان.

كنت لا أنفك عن المقارنة بين جنيف ومدينتي الرباط التي كانت تناديني في كل لحظة لأعود إلى أحضانها فخورة بها لأنها أكبر منها مساحة، وبها البحر الأطلسي الذي أعشقه، وفيها من الشوارع والآثار ما لا يوجد في جنيف وغيرها. لو خيرت بين المدينتين لاخترت الرباط دون تردد، ففيها الابتسامة التي لا تفارق الوجوه، وفيها الشمس التي تطل على المغاربة كل يوم لتحكي لهم رحلتها عبر العالم، وفيها شيء آخر يشدني إليها لا أعرف ما هو، ربما كونها تسمح لي من حين لآخر لآخذ عطلة وأسافر إلى مدن العالم الأخرى، إلى باريس وجنيف وإستطانبول. ولأن هذه الوجهات لا ترفضني، فإني أسمح لهذا بالتوأمة بينها وبين مدينتي، على الأقل في مخيلتي!

 

سميرة مسرار،شاعرة وروائية وباحثة الحقوقية