"غضب إلاهي" (La ira de dios) للمخرج الأرجنتيني سيبستيان شيندل، رغم أنه فيلم مقتبس عن رواية للكاتب غييريمو مارتينيز، لكنه يعتمد على نفسه ويستمد مرجعياته السينمائية من علم النفس والأدب والمعرفة الخلاقة بتقنيات الكتابة السينمائية الخاصة بالأفلام المبنية، بكثير من البراعة، على حبكة تجعل المتفرج يلهث وهو يتابع تطورات القصة الأساس، ويسعى لشحذ كل امكانياته في التلقي حتى يستطيع فهم البناء "البوليسي" لجرائم تحدث تباعا، وقبلها العلاقة المعقدة بين شابة ورب عملها، الكاتب الروائي البارع، في نسج أعمال روائية بشخصيات مفارقة للواقع ومتعالية عن ما يدور عادة في أفلام تهدف إلى خلق الدهشة وجر المشاهد للعيش لحظات من الرعب وقطع النفس. علاقة تكون منطلق الأحداث وتقعير لما سيحدث من وقائع درامية يؤدي ثمنها أبرياء من عائلتي الشابة التي تصاب بحالة من الانهيار النفسي، والروائي الغارق في لوعة الموت وذكريات لا تمحى من الذاكرة لقسوتها...
أحداث الفيلم يتقاطع فيها، بكثير من الحرفية، الواقع بالخيال، والذاتي بالموضوعي، وذلك من خلال متتاليات سردية تنقل لنا عالما مصاغا على الشاشة يشكل مضمونا لرواية تكتب بشكل متتال، ووفق ما يحدث من جرائم تستهدف عائلة الشابة بالأسماء، جرائم تنسبها للكاتب الذي يتمتع بقدرة خارقة في الكتابة والانتقام لموت العائلة بسبب خطأ عبثي، خطأ يتمثل في قبلة، نعم مجرد قبلة، أو نزوة لحظية غير مفكر فيها، قبلة ستغير علاقة الكاتب بكاتبته الشابة، وستحول حياتيهما إلى جحيم لا يطاق وسلسلة من الانهيارات النفسية والتصفيات الجسدية، قبلة اعتبرها الرجل / الكاتب مجرد خطأ وسوء فهم من جانبه، نتيجة إشارات صادرة من كاتبته أوحت له (أوهمته) بأنها معجبة وترغب فيه، بينما اعتبرتها هي تحرشا غير مقبول من طرفه، ونيلا من كرامتها كامرأة، لتتدحرج الأحداث ككرة ثلج، وتكون النتيجة، غير منتظرة البتة، تتمثل في اكتشاف زوجة الكاتب لحادثة التحرش، وتقرر، تحت الضغط النفسي الذي كانت تعيشه نتيجة إصابة سابقة في مجال القدم جعلها تعتزل الرقص هي الراقصة التي كان لها مستقبل كبير في عالم الباليه، الإنتحار، بعد خنق ابنتها الصغيرة بغطسها في الماء...
"اغتيالات" محبوكة، لا تدع مجالا للشك لدى لوسيانا أن القاتل هو كلوستر، لأنها اغتيالات تشبه اغتيالات تعرضت لها شخصيات مختلفة في رواياته، وبالتالي تحاول أن تكتشف الحقيقة بمساعدة الصحفي ايستيبان راي، رغم أن هذا الأخير لا يصدقها كما لا يصدقها كل من حولها.
المثير في عقدة الفيلم أننا لا نستطيع القبض على الحقيقة، حتى وإن كانت كل الدلائل تؤكد أن كوستلير هو الفاعل انتقاما لموت زوجته وابنته، بل ويتلاعب بنا المخرج في النهاية حيث يجعل هذا الأخير (كولستر) يخرج منتصرا واضعا اليد على البنت الصغرى للعائلة المنكوبة في موت أفرادها واحدا واحدا، بينما تنتحر لوسيانا أمام ذهول حشد من المحتفلين بالرواية الأخيرة لهذا الكاتب "القاتل" لأنها لم تستطع كبح جماحه و شره وشرهه في الانتقام.
على وقع النار التي تلتهم ثابوت لوسيانا، ونظرات الشك والذهول لدى ايستيبان، يغادر كلوستر مكان حرق التوابيث متأبطا كتف فالونتينا (الأخت الصغرى للوسيانا) كشيطان يخرج من نار حارقة في جحيم لا معادل له إلا حجيم الحياة.
لقد أثبت المخرج سيبستيان شيندل أنه سيد من سادة سينما الحبكة والقص المؤسس على واقع لاأخلاقي ينتصر فيه الشر على الخير،مخرج يؤسس - بذلك - لسينما مغايرة، سينما تهدف أولا وأخيرا للفرجة الحاذقة المتمكنة من حيث الصياغة الفنية والقدرة التقنية والانتصار للصنعة السينمائية في أبعادها الجمالية، مع توظيف ممثلين بقدرات هائلة على الأداء والإقنا، لكن دون أن تخلف لدى المشاهد، في النهاية، أي بصمة غير بصمة الامتعاض، من جعل الفرجة دربا من دروب التسكع في عالم الجريمة التي لا تجابه بأي عقاب، واعطاء الحق للذكاء في صوغ سينما جديدة تتنكر لكل المبادئ التي صنعت من أجلها السينما، لا نعني بها المبادئ الأخلاقية الفجة والخطابات الوعظية المباشرة، ولكن مبادئ، أو على الأقل مبدأ زرع بعضا من الأمل وحب الحياة في النفوس البشرية، وجعل الحلم بالخير والجمال سنة من سنن الفن والسينما.