الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد منير: الحجُّ .. مظاهرُ أم مقاصِد

محمد منير: الحجُّ .. مظاهرُ أم مقاصِد محمد منير

مِن أجمَل الأمُور في دِيننَا أنّه مُتنوِّعُ الحَوائجِ ومُتعدّدُ الوَشائِج، ولكلٍّ في نفسِه حاجَاتٌ ووشائجٌ مُستقرُّها عندَ من يَملكُ مَبدَأها ومُنتهَاها، ولولاَ هذهِ العَلائقُ الرّوحَانيةُ بينَ العبدِ وربِّه، بينَ صلاةٍ يُراوِح بهَا يومَه وصيامٍ يقيمُ به صُلبه ودعاءٍ يناجِي بهِ ربّه، وأعيادَ ومواسمَ يتذكرُ فيهَا نَعماءَه ويشكرُ آلاءَه ويلقىَ بها أهْلهُ وصَحبه وخِلاّنه، لكانَ هذا الدّين خشِيبا رتِيبا، وقد جَعلها اللهُ تعالى مناسبَات لتجمِيع الأمّة وتأليفِ قلوبِها وتوحِيد آلامِها وآمالِها وتنوِير حرَكاتِها وسَكناتِها، ((وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون)) المؤمنون-52.

 

ومِن هذا التنَوُّع، أيّامُ الله المبَاركات أيّام الحَج والتِي تَبدأ منْ يوْمِ التّرْويَة اليومُ الثامِن من ذِي الحِجة، واليوم التاسِع يومُ النحْر، واليوم العاشِر يوْم الوقوفِ بعرَفة، وأيّام الحَادي عشَر والثانِي عشَر والثالثِ عشِر من ذِي الحِجة والتِي يُصطَلح عليهَا بأيّام التشرِيق، ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ)) سورة البقرة- 197، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه.

 

كثيرٌ منَ الناسِ لمْ يحُجّوا بعدُ إلى البيتِ العتِيق، ولعلّ من بينِهِم كثيرُون لم يفَكرُوا بعدُ في الحَج، فالأعْذارُ كثيرةٌ منهَا الصّحّة والمَال، ورغمَ امتِلاكهِما لدى البعضِ فإنّ الأذانَ بالحَجِّ لم يصِلهُم بعدُ ندَاءُه، (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج (27)، والحجُّ شرعَه الله فريضَةً من فرائضِ الدّينِ ورُكنا منْ أركانِه، والحجُّ لغَة: هو القصْد مُطلقا، واصطِلاحًا: هو قصدُ مكّة البلدَ الحرامَ لأداءِ المناسِك وعبَادة اللهِ استِجابةً لأمرِه وابتغَاءَ مرضَاته، تصْفيةً وتزكيةً للنّفوسِ في رحْلة شبيهَة برحْلةِ أبِينا إبرَاهيم عليهِ وعلىَ نبيِّنا أزكىَ الصّلاة والسّلام، وسيدَتنا هاجَر وسَيدنا إسمَاعيل،  ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) البقرة (127).

 

وقدْ يشتَاق المُسلم إلى ربِّه شغَفا وشوْقا فيَحتاجُ إلىَ شيءٍ يروِي به ظمَأه، فلاَ يجِد رواءَهُ إلا في دمُوع تكتحِل بهَا عينَاه عندَ رؤْية بيتٍ يغوصُ بك سوَادهُ في زخَمِه الكثيفِ بالأحَاسيسِ المُتمَثلةِ المُتبتٍّلةِ رغبًا ورهبًا، وطوَافا كلمَا ضَاقتْ أشوَاطهُ ازدِحامًا زادَتهُ سعَةً ورحَابةً  في حضرَة من وَسِعت رحمَتهُ كلّ شيءٍ، فأيُّ لذّةٍ هذِه وأيُّ مذَاق؟ وأيّ حقِيقة يعِيشُها الحاجُّ حينئِذٍ رغمَ المشَاقّ؟ فرَغم أنّ للهِ بيوُتا في بِقاعِ الأرْضِ كلِّها لكنّ هذهِ المسَاجد لا تُحققُ نفسَ الغايَة، فلِماذا خصّ الله تعالىَ الكعْبة المشرّفة والمَسجدَ الحرَام بهذهِ الرِّفعَة؟ وهلْ حقًا يجدُ القاصِد لهذا البيتِ غايتهُ ومطلبَه؟ وكيفَ للمسْلم بسمَاع الأذانِ بالحج؟.

 

الصّحةُ والمَال والرّاحِلة شُروطٌ لابدّ من إدرَاكها ليُحقّ علىَ المسلِم حجُّ البيتِ وبدونِها فلاَ حجّ عليه، (( وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ )) آل عمران:97، والنّفقةُ الحَلالُ أسَاس الحجِّ المبرُور ومفتاحُه في التوفِيق والقبُول، إذْ لا حَج لمَن كانَ مالهُ سرِقةً أو غصبًا أو ربًا، فقد كان ابن عمر رضي الله عنه يقول: "أفضل الحجاج أخلصهم نية وأزكاهم نفقة وأحسنهم يقينا"، ثمّ تركُ الرّفَثِ والفسُوق والجدَال وردُّ المظالمِ لأهلهَا امتِثالاً لأمرِ الله تعَالى، ((فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ)) البقرة -197، والرّفثُ هو الجِماعُ أو مُقبّلاتُه، والفسُوق كلُّ كلامٍ فاحشٍ أو فعلٍ لا يَليق، أمّا الجدَال فهو المُمارَات والخصُومة، أمّا المظالِم فهِي حقُوق النّاس أمْوالاً كانَت أمْ أعرَاضًا وغيرِها.

 

إنّ من أعظمِ التجَليَات الرّبانيةِ علىَ الحَاج، تجرّدُه لله عزّ وجَل وإقبَالهُ عليه بالمَال والنفْس، وقطعِ العلائِق المُثبّطةِ عن مُفارَقة الأهلِ والأحبَاب مُخلِّفا ورَاءهُ جَاها وترَفا وزينَة، قاصِدا مَكة بالإحرَام من المِيقات، مُلبِّيا داعِيَ اللهِ بأداءِ مناسِك الحَج مُحقِّقا شُروط الدّعوةِ بلا تحَفّظاتٍ ولا مُطالبات، إلا طمَعا في القُرب والأنسِ والدّخول في حِرْز اللهِ وأمنِه، (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ)) آل عمران:96.

 

ولا تتَحققُ مقاصدُ الحجّ إلا بِاستحضَار المعَاني الكامِنةَ في كلِّ حرَكة أو سَكنة، فإنّ بكلِّ نظرَة أوِ الْتِفاتَةٍ أو خُطوَة معنىً له قصّة وكلُّ قصّةٍ لها دلاَلةٌ وأبْطال، فبِقدرِ تبصُّرك وتأمّلك وتدبُّرك يكونُ طوَافك راقيًا، وبقدرِ تحمُّلك وتصَبُّرك تكونُ قدْ حققتَ ما لاَ يُحققُه كثيرٌ من الحُجّاج، ((وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) فصلت (35)، رُوِيَ عن عبدِ الله بنِ المُبارَك أنّه كانَ إذا حلَّ بمِنىً كأنهُ أصَمُّ أبكَم.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق عليه.

 

 وَقفَ رجلٌ يشاهِد موكِب الحجِيج وهمْ يلبُّون : " لَبّيكَ اللهمّ لَبيْكَ، لبيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمَة لك والمُلك، لا شرِيك لك" ، فتنهّد قائِلا: هذِه حسْرةُ منِ انقَطعَ منَ الوُصُول إلىَ البيتِ، فكيفَ يا تُرَى .هيَ حسْرةُ منِ انقَطعَ عنِ الوُصُولِ إلىَ ربِّ البَيت؟.