الجمعة 17 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد منير: الأخلاق والتربية والإقتداء

 
 
محمد منير: الأخلاق والتربية والإقتداء محمد منير
 بأيِّ بيَانٍ لغَويٍّ يُمكنُنا أنْ نُعبِّر عنِ الأخْلاقِ وجمَالهَا ، إذِ الجمَالُ لا أفُقَ يحُدُّه ولا كوْنَ يُحِيطُه فكيفَ بالكلمَات، كيفَ لا.. واللهُ جلّ وعلا جَميلٌ خلقَ الكونَ بما فيهِ على ذوْقه، فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جميلٌ يحبُّ الجمال، ويحبُّ معاليَ الأخلاق ويكرَه سِفْسَافَها" متفق عليه، والأخلاقُ ضابطُ الجمَالياتِ التي أحَاط الله بها هذا الكَون الرّحيب، ((لَا ٱلشَّمْسُ يَنۢبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ وَلَا ٱللَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ)) (يس40)، أخلاقيّاتُ الإنْصِيَاع للسِّياقِ الفِطْريّ، خُضُوعَ اطْمِئنانٍ يفيضُ جمَالا يمْلأُ الأبْصارَ والبصَائرَ إذا ما تأمّلتِ الكوْنَ بَحثا عن سُؤالٍ ما يُؤرّقُ الأفْهامَ والأحَاسِيسَ والأذْوَاق.
 والأذواقُ أشواقٌ لكلِّ ما هوَ بديعٌ رفيعٌ إنْ في الإنسانِ أوْ الحَيوانِ أوْ النّبات، بل حتّى الجمَاداتِ تأسِرُنا بأسْرارِها في كثيرٍ من الأحيانِ في سجْن الحَنين شوْقا إلى تذَوُّق شيءٍ ما ذُقناهُ هُناكَ، في زمنٍ مضَى في بلد ما، في أثَرٍ ما، في مسجد ما، في غابات أو جبال، والإنسانُ من قبلِ هذا وذاك لهُ ذوقٌ خاصّ إن بحُسْن أخلاقه أو بسيِّئِها، فتُشَدُّ الرِّحال للأوّلِ حُبًّا وتودُّدًا وتعلُّمًا، وتنْفُرُ النفُّوس منَ الثّاني توَقِّيا وتَقزُّزا.
وللأخلاق الطيبة أطيافا فوّاحَة بجمالِ الأرْواحِ قبل الأفْعال، فتَشْتمُّ من بعيد عبق الصِّدق والأمَان بسْمة وبشاشة، تداعب المشاعر بالمظهر قبل المخبر، " تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة " رواه الترمذي عن أبي ذر، فيدبُّ الإحترامُ في الأوْصَال شعْرةً فشعْرة ونفَسًا فنفَسًا، تجَاوُبا وتوَاصُلا يَعرُجانِ بالرُّوح إلى مدىً تحُوم فيه حول منبعِ الجمَالِ وأصْلهِ وهو اللهُ الجميل، فتتضَلّعُ من صِفاتِ الله خَلْقا وخُلُقا وتلتحِق بالرّكب الكونيِّ البديع نسَبا وصِهْرا، حيثُ الجمالُ والكمالُ ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) (البقرة117)، وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ الجنّة لمن ترك المِرَاءَ، وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنّة لمنْ تركَ الكذِب وإن كان مَازِحًا، وببيتٍ في أعلى الجنّة لمن حَسُنَ خُلقُه" رواه أبو دوود والطبراني والبيهقي.
لعلّها كلماتٌ بلغتِ القلوبَ قبل الآذان، ورَنَتْ إليها الوِجْدانُ قبلَ العِرْفان، لكن هيْهاتَ..هيْهات، أنَّى لهذا اللاَّهِثِ خلف القُبح المُشْبَعَة نفْسُه بالعَفَن المُركّبِ المُتَراكِمِ عبرَ دُخان الإعلام المُتفسّخ المُسْتبِيحِ لكلِّ الحُرُمات، وثقافة الصُّورة المُتحوِّرَةِ المُحَيِّرَة للألبابِ الفَطِنَة، فكيف بالغَبِيّةِ الغائِبَة المُغَيّبَةِ عن حالها ومآلها؟ هذا الدُّخان المُعْتِمُ الذي أفرغ الناسَ من كل ما كان جميلاً جيلاً فجيلاً، هذا الدُّخان الذي أحَالَ كلّ الألوان غيْهَبًا طَمِسًا، وكل الروائح عَطَنًا مُزْكِمًا، فأنّى السّبيلُ إلى الإنتباه قبل الإشْتِباه؟ أنّى للأجْيالِ الحاضرَة والوافدة إلى ممارساتٍ جميلة؟ وعباراتٍ جميلة؟ وهيآتٍ جميلة؟
يُحِيلُنا هذا الواقعُ الأليمُ على تسَاؤُلاتٍ كثيرة وجوهرية تهمُّ الفرد والمجتمعَ والدولة، تساؤلات سبقنا إليها علماء وأدباء وفلاسفة وغيرهم، سؤال التربية بالقدوة الحسنة؟ هذه القناة الرئيسية التي تنبثق عنها قنوات الولاية الأبوية والإعلامية والتعليمية، والتي لا محالة صلاح الأخلاق بصلاحها وفساد الأخلاق بفسادها؟
يقول الله تعالى: ((لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا)) الأحزاب21، فالله تعالى يريد لهذا المخْلوق العَابثِ في دُنيَاه، أن يتَحقّق بأخْلاق الحبيبِ المُصْطفى، قمّة الهرَم الترْبويِّ إنسَانا نبِيّا ومُعلّما، ((وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ)) القلم-4، وأنْ ينتَبِه إلى مصْلحَته بهذه الإشَارات الدقيقة إلى من يأخذ عنه دينه وعلمه وخلقه، أيًّا كان أبًا أو أمًا أو مُثقّفا أو مدرِّسا أو إعلاميّا أو فنّانا أو غيْرُهم، بمَا يرْجع عليه بالفهْم والنُّضجِ، ثم فلتأتي بعدَ ذلك ثقافاتٌ أخرَى مليحَة "فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها".
إنَّ مُؤثِّراتِ التّلقِّي عند الإنسانِ البَالغ تُآنِسُ من الجَمَاليةِ المُتوَاريّة خلفَ مرَاتِعِ الصِّبَا، أرضِيةً خِصْبةً مُتحَصِّنةً بالفِطْرَة الإسْلاميّة الحَنيفة وذوْقا سَليما، (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )) الروم-30، فتُأسّس لمسَات ولمحَات في قوالبَ أخلاقية جميلة ملاذًا عاطِفِيا فسِيحا، (( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) لقمان-13، وأقومُ هذه المُؤثّراتِ وأيْسرُها وأقْصرُها بُلوُغًا للنّفْس، وهيَ القُدوَة من خِلالِ القِصّة وأبْطالِها والقَضِيّة ورُمُوزِها، تمَثُّلاتٍ تُنَمِّي عند المُتلقِّي ذوْقا ثقافيا راقيا وفنّيا رائقا، (( فَاقْصُصِ القصَصَ لعَلّهُم يتَفكّرُون )) الأعراف-176، وتحضُّهُ على الإستزادة من نورِ المعْرفة عبْر تسَاؤُلاتٍ فلسَفيَّة مُتطلّعَة للأفْضل، وليسَ هناك أجمَل ولا أبهَى ولا أنْدى من صُوَرِ القرآن حَلاوةً ونقاوةً وطرَاوةً، ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ))آل عمران-190.