الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

سعيد توبير:نظام التعليم بالمغرب وجدل التحدي والاستجابة

سعيد توبير:نظام التعليم بالمغرب وجدل التحدي والاستجابة سعيد توبير
ارتأيت التطرق في هذه الورقة من منظور عملي و بإحساس مربي خارج للتو من تجربة القسم إلى عالم الإدارة التربوية، بعدما خبِرنا جسامة الأمر و إلحاح الحاجة الى التدخُّل العاجل. يستند ما أقوله إلى خبرة عمليَّة تمتدّ لأكثر من عقدين من الاحتكاك المباشر متعدِّد الأبعاد بقطاع التعليم الثانوي التأهيلي العمومي والخصوصي في المغرب، : سنوات من الممارسة المهنية، مناظرات، لجان الإصلاح، مراجعة قوانين ومراسيم وأشغال المجلس الأعلى للتعليم وغيرها، مما يُشكل تراكماً أدبياً مس كل جوانب منظومة التربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، البرنامج الاستعجالي، ثم الرؤية الاستراتيجية 2015.2030 التي اعتمدها المغرب بكل مكوناته ومؤسساته خارطة طريق إصلاح منظومة التربية والتكوين.
ثمَّة حقيقة فاقعة لا تخفى، لابد من اعتمادها مدخلا أول لحديثنا وهي أنَّ المغرب بلد صغير السن بامتياز، حيث أكدت تقديرات الهيكل العمري في 2019 أن المجتمع السكاني المغربي يصنف بصغير السن، حيث أن 26.3% من السكان لم يتجاوزوا سن الرابعة عشر من العمر، 43.1% دون سن 25 عامًا، فيما نسبة 46.32% من السكان تقع في الفئة العمرية (25-59) عامًا، وفقاً للمؤشرات الاجتماعية الرسمية. أي ما ما يضعه ضمن قائمة الدول النامية؛ التي تحتاج فعلا إلى قاعدة اقتصادية قوية تعتمد على مايسميه الدكتور عبد الله العروي " الدرابة اليدوية" أي الحرف و المهن.
الواقع المثير للتوجس على مستقبل الأمة المغربية هو أن مؤشِّرات التربية و التأهيل تبقى متدنيَّة جدا، ويفيد بعضها أن عددا كبيرا من الشباب يتواجد في الفضاء العمومي من دون تأهيل أوعمل و تكوين. إنها معطيات تضاعف المسؤوليَّة على المجتمع والدولة في توفير بيئة راعية لهذا الزخم الهائل المتزايد من الفتية والفتيات. وعليه نتساءل بكل مسؤولية تاريخية : ألا يمكن لواقع الإستقرار السياسي و إمكانيات الموقع الاستراتيجي اقتصاديا أن يفعل التفكير بجدية في تنزيل أو أجرأة مخططات سريعة لتأهيل الشباب، الذي يمكننا على الأقل من تفادي تحول هذه الطاقات الى الوقود الخام الجاهز للانفجار عنفاً ومخدّرات وتطرّفاً وجريمة.
وليس سرًّا أنَّ نظام التعليم – بجناحيه الأساسي والعالي- يواصل في المغرب تراجعه رغم ما يصرف عليه من أموال وجهود، كما أن الجامعات المغربية خارج التصنيف العالمي أو في ذيله، التسرّب من المدارس ظاهرة بارزة، والتعليم التجاري منتشر كالفطريات دون ضوابط فاعلة.وبينما يضطرد التقدّم في فلسفة التعليم وطرقه واستراتيجياته في المنطقة والعالم، تتعثَّر مسيرته في المغرب وتتَّسع الفجوة باستمرار بين ما يتوفَّرلأجيال البلد الصاعدة وبين ما يحصل عليه نظراؤهم في الدول الحديثة الاستقلال مثلنا، ناهيك عن معاناة الألاف من المتعلّمين والمدرسين سيما في العالم القروي من مدارس بلا بنى تحتيَّة وتكدّس في الصفوف وترهّل في الموارد البشريَّة غير المؤهَّلة بما يكفي.
المفارقة هو أنّ المغرب يزخر بالخبرات الوطنيَّة الأكاديميَّة والتقنيَّة المتقدِّمة داخله وخارجه، لكن جهود الإصلاح تبدو متناثرة لا يجمعها رابط، ولا تشكّل تراكماً ملموساً كمن يحفر في بئر لا قاع له، وهو ما انعكس على العديد من المعنيين الذين التقيتهم وعملت معهم خلال السنوات العشر الأخيرة شعوراً باليأس والعجز وقلّة الحيلة والإحباط. لهذا كله تصبح أزمة التربية والتعليم قضيَّة سياديَّة ملحَّة تخصّ الأمن الوطني ومستقبل البلد ومصير أجياله، ما يعني أننا يجب أن نتوقَّف فوراً عن اعتماد واتباع عقليَّة التدرّج والتراكم البطيء في إحداث الإصلاحات اللازمة، واستبدالها بعقليَّة التدخّل العاجل لوقف التدهور وإجراء إصلاحات جذريَّة مستدامة، حتى إن عنى ذلك العودة خطوتين إلى الوراء للتقدّم أربع خطوات إلى الأمام. الواقع هو أن التحولات الرقمية الجارفة و الطفرات الحاصلة في تعريف المدرسة والتعليم الصفي بشكل جوهري هو ما اضطر مؤسَّسات تعليميَّة عالميَّة عريقة إلى النزول من أبراجها العاجيَّة والتواضع أمام عصر انتشار المعلومة وسهولة الوصول إليها عبر إحداث تحوّلات جذريَّة في سياساتها وبناها الإداريَّة وتوجّهاتها المعرفيَّة، على أساس توفير إمكانية فرص حقيقيَّة لقطاع التعليم في المغرب لاختصار الوقت وجسر الهوّة مع العالم.
هنالك الآلاف من الدراسات والأبحاث الرصينة لباحثين مغاربة جادّين وما لا يحصى من الدراسات والوثائق الدوليَّة التي تعالج أزمات التعليم البنيويَّة والفنيَّة والمعرفيَّة، لذلك فإنَّ ما ينقصنا بالدرجة الأولى ليس المزيد من هذه الدراسات بل "رؤية جامعة" تعكس فلسفة واضحة ذات صلة باحتياجات وتحدّيات البلد الفعليَّة وثقافته وهويّته الحضاريَّة، وتأطيراَ معرفياً كلياً يحوّل مخرجات التربية والتعليم جوهرياً باتّجاه تخريج مواطنين صالحين منتجين يجيدون صنع الحلول المجتمعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة لا "الرقص المسعور حول الذات" كما يقول د عبد الله العروي.
أربعة مداخل أساسيَّة لضمان نجاح أي تدخل جاد تقوده الدولة في إصلاح منظومة التربية والتعليم في المغرب، شرط أن تبادر المؤسَّسات المعنيَّة في المجتمع إلى الضغط على الدولة لتحقيقها، لأن مسؤوليَّة التربية والتعليم مشتركة وتضامنيَّة بين الدولة والمجتمع.
1-لا يجوز أن تبقى منظومة التربية والتعليم رهنا بتقلّبات الساسة ومزاج الوزراء، وبما أنّ الوضع السياسي والاقتصادي العالمي " تداعيات كورنا و الحرب الروسية الاوكرانية" ما زال مضطربا وغير مستقرّ، وقد يمرّ وقت قبل حدوث أي استقرار نسبي، لذلك لابد من سنّ تشريعات ووضع سياسات تحمي التربية والتعليم من ارتدادات اضطراب جائحة "كورونا" ومن تداعيات السياسة الحكومية، التي تكشف ممارستها تناقض الوعود الانتخابية مع سياسة الأمر الواقع، الشيء الذي يمكن ان تستغله تيارات مجتمعية معينة لجر بعض مكونات المجتمع المغربي في اتجاه المجهول.
2- لا يجوز أن تبقى منظومة التربية والتعليم رهنا بتقلّبات الساسة ومزاج الوزراء، وبما أنّ الوضع السياسي والاقتصادي مستقرّ نسبيا في المغرب، لابد من سنّ تشريعات ووضع سياسات تحمي التربية والتعليم من ارتدادات الاضطراب الاجتماعي المفترض و من الاحتقان السياسي في ضوء تراجع الأحزاب السياسية القيام بالتأطير السياسي و الفكري ومن الاتّفاقات التكتيكية بين النقابات و الحكومة، كما تفعل أي دولة راشدة ومجتمع ناضج في ظروف الأزمة العالمية و تداعيات الجائحة.
3- التركيز على التدريب المهني والتحوّل التدريجي من نظام تعليمي يعتمد الشهادات الجامعيَّة معيارا أول للتأهيل إلى سوق العمل إلى نظام يعتمد الشهادات المهنيَّة دقيقة التخصّص بمقاييس عالميَّة. انسجاماً مع التحوّل من اقتصاد تقليدي يعتمد على السياحة و الخدمات و أنشطة الفلاحة و الزراعة و الصيد البحري إلى اقتصاد صناعي منتج تنخرط فيه المنتوجات المغربية في دائرة التجارة الخارجية، كما يمكن أن تزدهر فيه ريادة الأعمال وينافس فيه العامل المغربي في السوق الإقليميَّة والعالميَّة خاصَّة مع انتشار الأعمال والوظائف على الإنترنت التي لا تتطلَّب السفر أو الانتقال من المكان.
4- الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، ليس فحسب كمهارة لا غنى عنها لوظائف المستقبل القريب، بل أيضا لتوفير حلول ذكيَّة لمشاكل وتحدّيات التعليم الإجرائيَّة مثل الوصول السريع إلى جميع فئات المجتمع، ضبط الجودة، مواءمة المدخلات والمخرجات، رعاية الفروق الفرديَّة والشرائحيَّة، تطوير الإشراف ومحو الأميَّة، ناهيك عن مشاكل وتحدّيات القطاعات الأخرى.