الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

"زيارة".. سفر في الذاكرة المغربية اليهودية

"زيارة".. سفر في الذاكرة المغربية اليهودية
لا أحد يجادل في مكانة المخرجة المغربية سيمون بيتون، وفي منجزها السينمائي، باعتبارها رائدة من رواد السينما الوثائقية، وأيضا لمكانتها النضالية في مواجهة السياسات العنصرية للكيان الصهيوني، ومساندتها للشعب الفلسطيني. اعتبارات تجعل منها سيدة تستحق التقدير والاحترام، كما تدفعنا للاهتمام بكل فيلم من أفلامها، واعتبار خروجه حدثا سينمائيا بامتياز، ولعل فيلمها الأخير "زيارة"، الذي قدم عرض من عروضه الخاصة، يوم الأربعاء 30 مارس 2022، من اللحظات الهامة في كيفية طرح الأسئلة حول الذاكرة المغربية اليهودية، وكيفية صيانتها من الإنقراض، أمام زحف الزمن، ورحيل الكثير من اليهود عن وطنهم الأم المغرب، وعدم عودة الأبناء لمعانقة تراث الأباء والأجداد، بل، وكيف تخلي الكثير منهم عن لغة البلد الأصل، لحساب لغات أخرى لبلدان اختاروا العيش فيها. 

أسئلة حاولت المخرجة الإجابة عنها من خلال هذا العمل التوثيقي الذي رام تصوير أماكن مختلفة، لها ارتباط خاص بالديانة اليهودية، أماكن موزعة على خارطة مغربية شاسعة، تضم مقابر وبيع ومنازل لمواطنين مغاربة يهود قرروا، ذات زمن غير بعيد، الرحيل وترك كل شيء وراءهم، لكن ورغم الرحيل والإنتشار، لازال الكثير منهم يعود لزيارة تراث الأجداد، أساسا زيارة المقابر وبعض مزارات الأولياء والحاخامات.

الجميل في الفيلم، ليس فقط توثيق الفضاءات المغربية اليهودية، وتسجيل العشرات من أسماء اليهود الذين تركوا بصماتهم الخاصة في المخيال الشعبي المغربي، باعتبارهم أناس كانوا يتمتعون بقدسية خاصة لدى المغاربة اليهود، بل وحتى لدى الكثير من المغاربة المسلمين. وإنما تسجيل فيض من الحنان و االحب والتسامح لحراس هذه الفضاءات والقيمين عليها. تسجيل عكس الشخصية المغربية الأكثر تسامحا وانفتاحا وحبا لإخوانهم اليهود، مقارنة مع باقي الشعوب العربية والإسلامية، حراس كلهم مغاربة من المسلمين البسطاء، لكن لدى جلهم، إن لم أقل كلهم، معرفة خاصة، ووعي بأن  ما يحرسون هو جزء لا يتجزأ من هويتهم وتاريخ بلدهم، وبالتالي وجب الحفاظ عليه وصيانته من زحف النسيان..

العمل الذي قامت به سيمون بيتون، في قناعتي، جد هام من الناحية التوثيقية، وأيضا من جهة نشر مفاهيم التعايش وبعث رسائل المحبة والسلام، وإن كانت لنا عليه بعض الملاحظات، خاصة في ما يتعلق بالرؤية التي تحكمت في مجمل أحداثه، رؤية كان همها توثيق كل شيء، نعم كل شيء، يرتبط بالذاكرة المغربية اليهودية، لحد الخروج والإبتعاد، في بعض الأحيان، عن الخط الذي تحكم في بنائه، أي أنها وظفت أشياء بعيدة كل البعد عن ما له علاقة بموضوع الفيلم، بغض النظر عن قيمته، ومدى ملاءمته للسياقات العامة، والهواجس المتحكمة في عملية تحقيق الفيلم، مثلا حديث المناضل المغربي فؤاد عبد المومني عن مغرب البارحة واليوم والديموقراطية، وذلك في إطار حديثه عن الراحل المناضل ابراهام السرفاتي، حديث تم اقحامه اقحاما، ليكون وفيا لسياقات معظم الأفلام التي تروم التمتع بدعم بعض الصناديق الغربية التي تؤكد ضمنيا على ضرورة تكريس كليشيهات معروفة محددة عن بلدان الشرق الأوسط عامة، والمغرب خاصة. أو شهادة زهور رحيحيل مديرة المتحف اليهودي بالدارالبيضاء، التي جاءت متصنعة مبنية على تحذلق معرفي واضح وعواطف فجة سطحية.

ملاحظة أخيرة تتعلق بعملية تحديد الأماكن والمزارات، حيث تكاسلت المخرجة، فلم تحدد أسماء الأماكن التي صورتها، حيث لم تضع اشارات واضحة لها، ليجد كل متفرج نفسه يجتهد ليستخلص هذه الأسماء من خلال أحاديث الشخصيات، أو اعتمادا على ثقافته الخاصة وهو يعاين هذه الأماكن، ليبقى بعضها غفلا، لا نعرف أين يقع بالضبط، خاصة وأن عملية توضيب مشاهد الفيلم، لم تخضع لأي منطق، غير منطق تكديس المعلومات جنبا إلى جنب دون وازع فني، ومحاولة التسجيل مع أكبر عدد من الفاعلين ونزع المعلومات من المشاركين، حراس الذاكرة المغربية اليهودية.

سيمون بيتون، إلى جانب يزة جنيني وجيروم كوهن، تبقى مبدعة نابعة من ثقافة مغربية يهودية أصيلة، وحب حقيقي لوطن اختارت أن تحتضنه كما يحتضنها، وأن تساهم من موقعها في حفظ الذاكرة الخصبة للمغاربة اليهود، ذاكرة غنية بمنجزات تاريخ عريق، لجزء مغربي أصيل اقتلع من أرضه اقتلاعا، بسبب دعاية صهيونية فاشية كاذبة...

شكرا بيتون على "زيارة" مغرب متعدد غني وقوي بتاريخه وتراثه، وشكرا على كل هذا الاهتمام بذاكرة مثقلة بالذكريات، وأناس مغاربة بسطاء لكن أوفياء لبلدهم ولقيمه الأصيلة في ضرورة الحفاظ على لحمة الوطن واحدة موحدة.