الثلاثاء 16 إبريل 2024
سياسة

أبو وائل يقرأ خبايا الموقف الإسباني الجديد من القضية الوطنية

أبو وائل يقرأ خبايا الموقف الإسباني الجديد من القضية الوطنية الملك محمد السادس ورئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانشيز(أرشيف)
أنهت المنطقة المغاربية الأسبوع الماضي على وقع حدث ٱستثنائي بكل المقاييس من حيث الآثار التي ستترتب عنه بالنسبة لكل المعنيين به بشكل مباشر أو غير مباشر.
كان كافيا نشر خبر رسالة رئيس الحكومة الإسبانية إلى جلالة الملك لتتحرك الهواتف وتنشط الأقلام وينتعش النقر على "الكلافييات" وتشتغل بلاتوهات القنوات لتحليل الحدث وتجميع أطرافه واستشراف آفاقه. أوضح بلاغ الديوان الملكي، بما يمثله من رمزية سيادية، مضامين رسالة توصل بها الملك محمد السادس من بيدرو سانشيز يعترف فيها بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، ويعتبر فيها مبادرة الحكم الذاتي "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف". وبشكل غير منتظر، يؤكد رئيس الحكومة أن "ازدهار المغرب مرتبط بازدهار إسبانيا والعكس صحيح".
لقد أحدث هذا القرار زلزالا سياسيا وإعلاميا في الداخل الإسباني شديد الحساسية تجاه هذا الملف، ولعل هذا كان منتظرا ويستحضر تداعياته سانشيز ويضعه في الحسبان قبل الإقدام على هذه الخطوة التي استقر به الحال، بعد طول تفكير وتشاور، أنها الأصلح للدولة الإسبانية والشعب الإسباني عوض الاستمرار في سياسة شد الحبل مع الرباط ونحن على أبواب تحولات في المنطقة ونستقبل موسما صيفيا جديدا.
يدرك من يتابع هذا النزاع ثقل هذا الموقف وطبيعة هذا الاختيار وأهميته بالنسبة لدولة ظلت تقف على الحياد السلبي في أحسن أحوالها تجاه المغرب، والغالبُ على سلوكها طيلة ما يقارب نصف القرن هو معاداة مصالح المغرب ووحدته الترابية ودعم ميليشيات انفصالية تنتعش في الحرب وسيادة أجوائها حتى في فترات وقف إطلاق النار بتهديدها الدائم، عند كل هزيمة سياسية ودبلوماسية، بالرجوع إلى الحرب.
سارعت الحكومة الإسبانية بعد بلاغ الديوان الملكي لإصدار بيان يتحدث عن صفحة جديدة في العلاقات المغربية-الإسبانية وهو ما يفهم منه رغبة أكيدة في استمرار هذا التقارب وتسريعه وتوسيع مجالاته. ليس هناك شك أن موقف الحكومة الإسبانية خطوة في الاتجاه الصحيح، ولو أنها جاءت متأخرة، ويلزمها تسريع الخطوات لتفادي ما ضاع في الفترة السابقة، كما أن هناك ترجيح بأن الإسبان فهموا الحقائق على الميدان ويريدون استدراك أخطاء 47 سنة بعدما اقتنعوا أن مساواة دولة بحجم المغرب مع ميليشيات تفكر بمنطق العصابة غير سوي وتضيع فيها المصالح الإسبانية أساسا. استوعبت الحكومة الإسبانية متأخرة أن لا مصلحة لها في إدامة هذا الخلاف مع المغرب ويلزم أن تكون هي المبادِرة في تصحيح الوضع المختل لأنها هي من تسببت فيه بخطأ سياسي ودبلوماسي وحقوقي وإنساني لن يمحى من الذاكرة حين أقدمت على استقبال بن بطوش بهوية مزورة فكانت النتيجة وضع مصداقية الدولة كلها في الحضيض. كيف تقدم دولة على سلوك مثل هذا؟ هل يجوز لها المغامرة بمثل هذه الخطوات؟ ما هو المقابل الذي يجعلها تمرغ سمعتها في هذا الوحل؟
توقيت هذه الرسالة مهم جدا، وسؤال التوقيت في القرارات السياسية مهم للغاية. صدر القرار في وقت حرج توجد فيه القارة الأوربية ويغلب فيه منطق التفكير الأحادي حيث كل دولة تفكر في مصالحها أكثر من مصالح غيرها، ومع اقتراب موسم العبور الصيفي الذي يعول عليه الجنوب الإسباني لإنعاش اقتصاده المتضرر بعد الضربة القاصمة التي تلقاها السنة الماضية والتي تؤكد لمن يستهين بالمغرب أن له كذلك من القدرات ما يمكنه من الدود عن مصالحه ويمكنه هو كذلك اللجوء إلى أساليب مضرة لمن يضر بمصالحه ولا يراعي قواعد الاحترام والتقدير المتبادلين. لذلك، على من يريد الوصول إلى فهم سليم لهذا التحول في الموقف الإسباني الانطلاق من تحليل التوقيت ودلالاته مع استحضار أنه ليس قرارا مفاجئا ولكنه محصلة لعمل دبلوماسي طويل.
كالعادة، ولأن لكل قرار أعداء ومتضررون من مقتضياته، انبرى الطوابرية والنواعرية للتهوين من هذه الخطوة. هناك من اعتبر الخطوة مجرد تكتيك مؤقت من الإسبان لن يدوم مفعولها طويلا وستتراجع الحكومة الإسبانية عنه إلى موقفها التاريخي المنحاز للبوليساريو. هؤلاء يَبنون هذه الاستنتاجات على ظنون تعضدها فقط أحقادهم على المغرب ورغبتهم في تسفيه كل إنجاز مغربي وخاصة إذا عرفوا حجم تأثيره على المغاربة ووقعه الإيجابي عليهم. يريد هؤلاء استدامة وضع السخط الذي لا يرونه إلا بنظاراتهم السوداء ولكن هيهات. لهؤلاء نقول. هب أن هذه نية الإسبان، ولا شيء في الواقع يؤكدها، فماذا يضر المغرب منها؟ وهل هناك كوابح تمنع المغرب من التصرف وفق نفس المنطق السابق في حالة أي سلوك معادي لمصالحه؟ العكس هو الحاصل. يتأكد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن سياسة الصرامة تجاه كل من يمس وحدة المغرب ومصالحه هي الأنجع.
عقيدة المغرب الدبلوماسية مبنية على مراعاة الجوار والتعاون مع الجميع ومنطق الشراكة الندية ورد التحية بمثلها أو بأفضل منها. والخطوة التصحيحية جاءت من الحكومة الإسبانية في ما يشبه "مراجعة جذرية" وهي أكبر بكثير من الاعتذار اللفظي والشكلي الذي قد يكون فيه اعتراف بالخطأ دون أن تتبعه خطوات تصحيحية ميدانية. ولذلك تعامل المغرب مع هذه الخطوة على أعلى مستوى بما تستحقه وبما يوطد الجوار ويثبت أن يد المغرب ممدودة لكل من يحترم سيادته ويقدر جهوده لحل النزاع المفتعل الذي طال أمده ويلزم وضع حد له في أقرب وقت. لقد قالها الملك محمد السادس صريحة لا لف فيها ولا دوران في خطاب الذكرى 46 للمسيرة الخضراء سنة 2021 حين عبر بوضوح بأن قضية الصحراء قضية كل المغاربة وأن المغرب ينتظر من شركائه مواقف أكثر جرأة ووضوحا بخصوصها لأن هذا الوضوح في المواقف سيساهم في دعم المسار السياسي وتعزيز الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى حل نهائي قابل للتطبيق, وبالمقابل، على من يفضل المواقف الغامضة أو المزدوجة أن يفهم بأن المغرب لن يقوم معهم بأي خطوة اقتصادية أو تجارية لا تشمل الصحراء المغربية. هل هناك صراحة وقوة وعزة أكبر من هذه؟
الموقف الإسباني إذن ليس إلا ثمرة من ثمار هذا الاشتراط الملكي وتأكيد لصواب الرؤية الملكية للحل التي وضحت أن مغربية الصحراء حقيقة ثابتة لا نقاش فيها بحكم التاريخ والشرعية وإرادة الصحراويين والاعتراف الدولي الواسع والمتزايد والذي يعرف دينامية إيجابية لا يمكن لأي كان توقيفها. وطبعا يسند كل هذه المقاربة الميدانُ حيث القنصليات يتزايد عددها وقد فاقت العشرين، وسحبُ الاعتراف بجمهورية الوهم في ارتفاع، والقراراتُ الأممية صارت أكثر وضوحا بدليل حالة الغضب غير المبرر التي يتعامل بها معها البوليساريو وراعيها نظام العسكر في الجزائر، والحضورُ المغربي في افريقيا صار مزعجا لأنصار البوليساريو، والأهم من كل ما سبق أن المغرب أخرج البطاقة الحمراء في حادث الكركرات وبين أنه جاهز لكل خيار في احترام تام للشرعية الدولية. ولقد حاولت ألمانيا جهدها للتشويش على هذه المكاسب فماذا كانت النتيجة؟ لقد صارت قوة المغرب واضحة لمن تخلص من حُجُبِ الماضي والأوهام ونقى نفسه من الغل والحقد. وللأسف، ما زال هناك سمايرية وطوابرية أسارى هذه الحجب. ويبدو أنه طبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يرون الحقائق والتحولات الحاصلة في هذا الملف.
والحقيقة أن تدبير المغرب لهذا الملف خلال هذه الفترة والنجاحات التي حازها يستحقان التأمل والبحث لأنه لم يحظ بعد بما يستحق من اهتمام ودراسة وتحليل من طرف الباحثين والإعلام ومراكز التفكير والجامعات. وهذه السرعة في النتائج والنجاح الدبلوماسي تستحقان التدريس لفهم اليقظة الاستراتيجية التي تشتغل بها مؤسسات الدولة وطول النفس والرهان على الزمن وعدالةِ المطلب لتحقيق النتائج المطلوبة. لقد كان استقبال بن بطوش خطأ استراتيجيا توالت بعده الانتكاسات والأخطاء كما تتساقط أوراق الدومينو واحدة تلو الأخرى. أين مفعول بيان التضامن الأوربي اليوم مع إسبانيا؟ ألم يُشِد الاتحاد بالخطوة الإسبانية؟ ألم ينتصر للمقاربة المغربية؟ مرة أخرى، وليست أخيرة، تحية لحماة الجدار الذين يصلون الليل بالنهار والجميع نيام بحثا عن معلومة أو تحليل أو تقدير يقوي الموقف المغربي ويعزز مكانة المغرب ويضمن له سيادته واستقلالية قراره ونديته تجاه الجميع.
يستثمر المغرب جهوده وينزل بكامل ثقله لإيجاد حل لهذا النزاع المفتعل الذي لن يعرف طريقا للحل طالما أن هناك من ينفخ في الرماد ومن يغذي الخلاف ومن يقوي من ينتعش في النزاع ويستثمر في الحرب لأنه يفكر بمنطق العصابة ولا يراعي الحسابات الجيوسياسية في المنطقة. لذلك كانت كل الخطابات الملكية صارمة في هذا الموضوع تجاه كل من يقف في وجه البحث عن حل نهائي لهذا الملف. وقد فهم وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس الرسالة وبين أن إسبانيا فهمت دورها والمطلوب منها حين قال بأنها يجب أن تكون "طرفا فاعلا" في قضية الصحراء ومعترفا بأنها ظلت لسنوات عديدة "متفرجا". على إسبانيا أن تعي بأن مصلحتها ومصلحة المنتظم الدولي أن تكون جزءا من الحل لا طرفا في تعميق المشكلة بما قد يترتب عنه من تداعيات ستكون أكبر المتضررين منها.
لا يمكن فهم الموقف الإسباني الجديد بمعزل عن الموقف المغربي من قضية الصحراء المغربية والذي أصبح أكثر رسوخا ويتكرر في كل مناسبة. المغرب لا يضع مغربية الصحراء على طاولة المفاوضات ولكنه يتفاوض فقط من أجل إيجاد حل سلمي لنزاع مفتعل دام أمده حتى صار يعرقل تنمية جنوب المتوسط ويهدد أمن وسلم المنطقة كلها ويلقي بتداعياته السلبية على أوربا. ومساهمة منه في إيجاد حل، قدم مقترحا واقعيا وعمليا يزاوج بين الحفاظ على سيادته وحق تقرير المصير، وهو مبادرة الحكم الذاتي التي يلتف عليها البوليساريو ومحركُها نظامُ العسكر في الجزائر. وكل من يبخس هذا الحل ولا يتعامل معه إيجابيا ولا يقدم بالمقابل مقترحا أفضل فهو يقف ضد وحدة المغرب وغير متهمم بإيجاد حل لهذا النزاع المفتعل. والمغرب غير مستعد لانتظار هؤلاء ولن يبقى تحت رحمتهم وسيُفَعِّل ما يراه مناسبا للدفاع عن وحدة ترابه وسيتعامل مع كل طرف بما يستحق.
العقيدة المغربية في العلاقات الدولية غير مبنية على ردود الأفعال المتسرعة والمتشنجة، ولكنها لا تتغافل الرد بالطريقة التي تراها مناسبة عمن يتجاوز حدوده. لقد شكلت إسبانيا أكثر دولة أوروبية لعبت على الحبلين منذ عقود وساندت أطروحات الانفصال رغم أنها غارقة في دعاوى الانفصال وبيتها من زجاج ولكن المغرب لا يلعب بالنار في قضايا مثل هذه. اختار المغرب تقوية موقفه في منتديات أخرى ومع شركاء آخرين أكثر مصداقية فكانت الحصيلة قرارا أمميا وضع الكل أمام الاختبار. هنا تبرز فوائد القرار الأممي 2602 والذي جاء بعد الاعتراف الأمريكي ولذلك قيل لحظتها أنه إنجاز ولكن الطوابرية كعادتهم وضعوا كل ثقلهم للتنقيص من قيمته وها هي الحقيقة ترى اليوم من علو شاهق بالعين المجردة. يراها المغاربة بفطرتهم ووطنيتهم ولا يراها الطوابرية الذين أعمى الحقد أبصارهم وبصائرهم فلا يرون إلا السواد والعياذ بالله.
من حق الطوابرية التشكيك في هذا النصر وفي استدامته، كما من حقهم المشاغبة على هذا النصر وقدرة المغرب على استثماره، ولكن عليهم أن يواجهوا المغاربة بوضوح ويبينوا أنهم ما دعموا قط مقترحا مغربيا وما قدموا قط قيمة مضافة لموقف المغرب ويختبئون دائما وراء انتقادات صارت ضدهم اليوم. ولقد ضبط في حالة شرود في هذا الانتصار أبو ندى ذي الهوى الجزائري والمصدوم من الموقف الإسباني والذي ما يزال يتمتع بعطف الأمير الذي صنعه ليزايد على المغاربة. أبو ندى انفضح كما غيره من الطوابرية، ولكنه ورط معه الأمير الذي يدل صمته على إقرار بما يفدلكه من طلاسم تعكس غله وحقده وكراهيته لهذه الخطوة.
هل دفنا الماضي بعد هذه الخطوة؟ هذا ما يتمناه الجميع، ولذلك فالمغرب منفتح دائما على تجاوز العراقيل كلما توفرت إرادة الحل ومعها مقترحات عملية، ولا يكون أبدا البادئ في الإساءة، وبالمقابل، لا يقبل أن يتعرض لها ويحتفظ لنفسه بحق الرد المناسب بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب الذي يحفظ له سيادته وللمغاربة كرامتهم. يحسب لرئيس الحكومة الإسبانية سانشيز خطوته هذه، وخاصة في ظل وجود يمين ويسار متطرفين غارقين في الشعبوية، ولذلك سارعت الأبواق المتحدثة بفم نظام العسكر والأقلام التي تكتب من محبرة هذا النظام بوصف خطوته بالمخاطرة والتلويح بالمعارضة الداخلية التي تنتظره وإمكانية استعمال سلاح الغاز الجزائري ضد حكومته والتشكيك في جدية المغرب وغياب الضمانات لإثبات حسن نيته في ملف مكافحة الهجرة السرية. يحاول هؤلاء فرض وصاية على الحكومة ورئيسها وكأنها تفتقد لأهلية اتخاذ قرار استراتيجي بهذا الحجم، ويتناسون أن التلويح بسلاح الغاز هو بمثابة استعداء مباشر للشعب الإسباني سيكون أول متضرر منه تلك الجهات الداعمة لأطروحات البوليساريو الذين يرهنون كل إسبانيا لأهواء تبون وشنقريحة، وأنهم بهذا المنطق يتصورون العلاقات والعقود بين الدول بدون ضوابط ملزمة يترتب عن الإخلال بها الجزاءات اللازمة، والأهم أنهم يتناسون الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر والتي ترى في ارتفاع ثمن الغاز فرصة لا يمكن إضاعتها، كما أنها مصدر لإنعاش الاحتياط النقدي من العملة الأجنبية الذي يعرف تراجعا مهولا في الجزائر ولم يعد معها بمقدور الدولة توفير الكثير من أساسيات عيش الجزائريين من السوق الدولية. للأسف، هذه دائما هي الأخطاء الكارثية لأنصاف المحللين وأشباه الخبراء الذين يفتون تحت الطلب في ما لا يفهمون فيه. ما لا يعرفه كثيرون أن إسبانيا اتجهت مؤخرا، بعد حماقة الجزائر إغلاق خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر المغرب والأعطاب والتعثرات التي عرفها الأنبوب الجديد، إلى تخفيض اعتمادها على الغاز الجزائري وبدأت بالاعتماد على الغاز الأمريكي المسال بنسبة الثلث تقريبا.
يستنتج من شكل رسالة رئيس الحكومة الإسبانية ومضمونها والجهة المخاطَبة بها وتوقيتها والمدة التي استغرقها الإعدادُ لها أنها طبخت على نار هادئة وبتشاور واسع وبمراعاة دقيقة للمصالح الإسبانية قبل أي شيء آخر. لقد كان لافتا للأنظار أنها رسالة اعتذار ضمني، وتستقي ألفاظها من معجم الخطابات الأخيرة للملك محمد السادس وتستحضر الإطار الذي وضعته هذه الخطب للتعامل مع الجميع. والصراحة أن صانع القرار الإسباني كان في حاجة إلى هذا الوقت، حوالي 15 شهرا، ومعه كان محتاجا إلى الالتفات إلى الوراء قليلا لاستيعاب ما تراكمه إسبانيا من خسائر غير مقبولة بسبب إصرار غير مبرر على مساندة أطروحات انفصالية لا تدعمها الشرعية الدولية وتقودها أطراف غير متهممة بإيجاد حل نهائي وتنتعش في إدامة النزاع وافتعال الأزمات المجانية، وفي حاجة أيضا إلى معرفة الصرامة المغربية في هذا الملف وحجم الالتفاف الشعبي والرسمي حوله. لقد كان يلزم كل هذا الوقت ليعلم سانشيز وحكومته ما تمثله قضية الصحراء للمغرب وأن من يقف ضد الموقف المغربي بشأنها فإنه يقف في مواجهة شعب وليس فقط مؤسسات دولة. ولا شك أن مرور هذه المدة أوضح اتجاه الأحداث بعد الاعتراف الأمريكي الساري المفعول والقرارات الأممية وتوجهات الاتحاد الأوربي ومواقف كل القوى الكبرى.
هل كانت اسبانيا مخيرة في سلك هذه الخيار؟ وهل كان بإمكانها الاستمرار في دعمها اللامشروط للبوليساريو؟ وهل كان من مصلحتها الخضوع الكامل للنزوات الطفولية لنظام العسكر؟
الجواب عن هذا السؤال يعرفه الإسبان وحدهم، ولكن الأكيد أن الاستمرار في دعم البوليساريو والموقف غير المتوازن من قضية الصحراء المغربية كانا سيعمقان عزلة اسبانيا ويضر بمصالحها وهي التي قد تتضرر من جراء التحولات التي تعيد ترتيب أوراق المنطقة كلها، وخاصة أوربا.
يكفي المشككين في هذا الانتصار المغربي حجم الاعتراض الإسباني على الموقف الأمريكي المعترف بمغربية الصحراء وضغطها في الاتحاد الأوربي للحيلولة دون توسيع أثره ليعرفوا حجم التحول في هذا الموقف ومن المستفيد والمتضرر منه. ويكفيهم كذلك معرفة أجواء الحزن التي سادت وسط حكام الجزائر ودميتها البوليساريو. أليس استدعاء الجزائر لسفيرها في إسبانيا مؤشر عدم رضى؟ ألا يعتبر التوصيف الجزائري لخطوة إسبانيا بالانقلاب المفاجئ تعبيرا حقيقيا عن الحالة السيكولوجية والصدمة التي يعيشها النظام هناك؟ أليس في موقف البوليساريو تعبير عن هزيمة وهم يعبرون عن "الاستغراب" من موقف الحكومة الاسبانية الذي "يتناقض بصفة مطلقة مع الشرعية الدولية"؟ أليس في الموقف الفرنسي والأوربي والأمريكي مكسب للموقف المغربي بدعمهم لهذه الخطوة الإسبانية وتثمينهم مرة أخرى للحكم الذاتي؟
لقد فاجأ الموقف الإسباني حكام الجزائر فوصفوه بالانقلاب المفاجئ وفي هذا التوصيف دليل على حالة التخلف والتيه التي تعيشها الدبلوماسية الجزائرية التي يتأكد مرة أخرى أنها استنجدت بالرجل غير المناسب. خسر لعمامرة وتبون مرة أخرى جولة ضد المغرب، ولكن هذه المرة كانت الخسارة أقرب إلى الشوهة حيث لم ينفع الغاز الجزائري في ظرفية حساسة جدا في منع إقدام الإسبان على الخطوة الصحيحة رغم التوقيت والظرفية الصعبة. وهذا يبين أن حكام الجزائر الذين يعولون على الغاز عليهم أن يراجعوا أوراقهم لأن ميزان القوى تؤثر فيه عوامل أخرى أهم من البترول والغاز. وهذه العوامل متوفرة لدى المغرب بنسبة أكبر بكثير من الجزائر.
 
 عن موقع "شوف تيفي"