توصلت " أنفاس بريس" بوجهة نظر من الباحثة عائشة واسمين، أستاذة بجامعة محمد الخامس الرباط، تستعرض فيها قرائتها للقرار الأخير للحكومة الإسبانية بخصوص الوحدة الترابية للمغرب المتمثل في رسالة رئيس حكومة مدريد الموجهة للملك محمد السادس، والتي يقر فيها اعتراف إسبانيا بجدية مشروع الحكم الذاتي حول الصحراء. فيما يلي نص المقال:
"على إثر تغيير الموقف الإسباني بشأن الوحدة الترابية للمغرب، يتساءل المرء عن الدوافع التي حتمت على رئيس الحكومة الاسباني اتخاذ هذا الموقف الإيجابي تجاه المغرب؟ وما وراء إعادة تفكير الإسبان في سياستهم المعتمدة طيلة عقود من الزمن تجاه المغرب. كذلك السؤال الآخر الذي يتعلق بالتوقيت الذي اختارته اسبانيا سيما الحمولة الثقيلة لهذا التوقيت.
هناك الكثير من النقاط التي تجمع المغرب واسبانيا على مستويات متعددة، تمتد إلى زمن بعيد وتلتقي في فترات قريبة، فهناك تاريخ مشترك لا يمكن للبلدين تجاهله أو القفز على مراحله، مليء بلحظات سلم وحرب قد تكون متكافئة للجانبين إذا أخذنا بعين الاعتبار فترة الوجود الإسلامي في الأندلس والذي كان وقتها مدعما من الجانب المغربي، وفترات الوجود الاسباني العسكري في بعض الثغور المغربية لفترات محددة قبل تحريرها من قبل المغرب.
وإذا استثنينا من هذه المعادلة مدينتي مليلية وسبتة التي منذ احتلالهما تم النظر إليهما بشكل مختلف وتم التعامل مع وضعهما انطلاقا من مرجعية أكثر دينية منها إلى جيواستراتيجية، ولعلنا إذا سبرنا أغوار التاريخ المشترك، سنقف على أسباب وضع اليد على المدينتين المسنود من الكنيسة الكاثوليكية التي رأت فيها آنذاك البوابة التي عبرت منها الجيوش الإسلامية إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ويجب السيطرة عليها لمنع تكرار نفس العبور التاريخي الذي غير الكثير من المعالم الإيبيرية وأضفى عليها بريقا حضاريا أندلسيا لازالت اسبانيا تستفيد من مداخله السياحية بالرغم من حمولاته المأساوية، لو نطق معتذرا، لمن قضوا أو اقتلعوا من المكان، لأمكن لإسبانيا الحالية أن تتصالح مع نفسها. وقد كانت هناك فرص كثيرة للمغرب لاستعادة المدينتين، لكن حالت ظروف ما دون ذلك، والعودة إلى التاريخ قد تمنحنا أجوبة بشأن العلاقات المغربية الاسبانية وحالات التأرجح التي كانت تشهدها بين التقارب السلمي والتباعد العنيف أحيانا. زد على ذلك أن إسبانيا عندما احتلت أجزاء من التراب المغربي في منتصف أواخر القرن التاسع عشر كانت في وضع سياسي واقتصادي ضعيف مقارنة مع باقي القوى الأوربية، وكانت بذلك تريد تعويض خسارتها لمستعمراتها في أمريكا. فمكنتها حرب تطوان (1859-1860) من توسيع حدود نفوذها حول سبتة ومليلية وبعدها جاء احتلال الصحراء سنة 1884 قبيل انعقاد مؤتمر برلين (1884-1885) الذي منح القوى الأوربية المشاركة فيه شرعية لاحتلال الأراضي الإفريقية التي استولوا عليها أو هم في طريق الاستيلاء عليها.
رجوعا إلى الأزمة التي اشتعلت بين المغرب واسبانيا قبل صيف 2021، فقد جاءت بعد تراكم عدة عوامل أبرزها دخول زعيم البوليساريو الأراضي الاسبانية بهوية مزورة وبالرغم من احتجاج المغرب لدى مدريد، لم يتم طرده، مما أجج فتيل الازمة ودفع المغرب إلى التهديد إن لزم الامر بقطع علاقاته الدبلوماسية معها.
وقد كان تحويل مسار عبور الجالية المغربية -في صيف 2021- عن التراب الاسباني تأثير كبير على الموانئ الاسبانية وبالضبط شركات الملاحة الإسبانية التي تكبدت خسائر جمة جراء هذا الإجراء. كذلك، ترتب عن إغلاق المعبر الحدودي لسبتة تداعيات كبيرة على التبادل التجاري بين البلدين وعلى المنتجات الاسبانية التي لم تعد تلج التراب المغربي، صحيح أن هذا الإغلاق تسبب في أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، إضافة إلى الأزمة الصحية بسبب كوفيد 19- بالنسبة للساكنة المحلية وللآلاف ممن كانوا يحترفون التهريب المعيشي، ولكن تضرر أيضا الجانب الإسباني من التدابير المتخذة من طرف المغرب والتي طالت وضع المستثمرين الأسبان في المغرب. إذن، في نظر المغرب، التصرف الاسباني بتجاهل مطالبه لم يكن مدروسا على أساس التوفيق بين المصالح ومبدأ حسن الجوار، بل أكثر من ذلك تم التعمد إلى الإساءة إليه، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، الشيء الذي لم يستسغه الجانب الأوروبي، حيث انزوى هذا الأخير خلف رؤيا ضيقة وأحادية تضع استمرارية مشكل الصحراء، في قلب خدمة مصالحه المتضاربة مع أطراف النزاع.
وإذا كان المغرب ينتظر من إسبانيا أن توضح موقفها من قضية الصحراء ومن مقترح الحكم الذاتي المقدم من المغرب كحل وحيد لقي الكثير من الدعم الدولي، فإن هذا الانتظار توج اليوم بإعلان اسبانيا عن دعم المغرب. هكذا يأتي الموقف الإسباني بخصوص مغربية الصحراء كتحول في السياسة الاسبانية منذ 1975 والتي اتسمت بالحياد تجاه أطراف النزاع، وأحيانا كان يغلب عليها الغموض والازدواجية ولاسيما أمام تداخل المصالح الاسبانية مع باقي الأطراف وبالتحديد مع الجزائر.
يعود التغيير الايجابي لصالح المغرب إلى العمل الدؤوب للدبلوماسية المغربية التي استعملت خطابا جديدا تأرجح أكثر نحو الشدة في تعاملها مع الإسبان في القضايا الوطنية، وخاصة أن المغرب سلك منذ مدة مسارا لتنويع شركائه الاقتصاديين، وذلك بغاية أن مسيرته التنموية لا تتوقف على شريك واحد.
من جانب أخر، يمكن القول إن التوقيت الحالي لإعلان اسبانيا لموقفها الجديد من قضية الصحراء المغربية يتزامن مع ظرفية عالمية غير مستقرة وفي حالة تغير مستمر، ولا سيما من حيث البحث عن حلفاء إقليميين ودوليين دائمين، ولعل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا التي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي وعلى تسارع ارتفاع أسعار الطاقة والسلع، قد تدفع أكثر الدول إلى إعادة النظر في سياساتهم الخارجية والعمل على توظيفها بشكل عقلاني وبعيدا عن الخلافات المستعصية الحل. وربما سيناريوهات المتغير الجديد في السياسة الاسبانية تجاه المغرب تأخذ أبعادا اقتصادية من حيث حاجة إسبانيا لشريك مستقر وسوق واعدة في الضفة الجنوبية للمتوسط، وكذا من حيث إعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي في ظل تصاعد أزمة الطاقة العالمية. هناك أيضا أبعاد استراتيجية تتمثل في إعادة إطلاق نوع من الحوار البناء والهادف بين الجانبين، تفاديا مستقبلا لأي مشكل حول المدينتين المحتلتين مليلية وسبتة، ولأنه لا شيء يظل على حاله، فربما يكون هناك اتفاق بين الطرفين تتخلى بموجبه إسبانيا عن إدارة المدينتين والجزر المحتلة للمغرب مقابل شروط أو امتيازات تحصل عليها اسبانيا. وأبعد من ذلك، وفي ظل بداية تشكل ملامح نظام عالمي جديد تخضع موازينه لمعايير مختلفة عن سابقه يمكن الدخول في تحالف إقليمي من شأنه تعزيز القوة الاقتصادية والتقارب السياسي للدول الأعضاء فيه، وذلك في غياب تحالف مغاربي طال انتظاره ولم يتحقق بعد.