الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: با دريس الخوري، صاحبي "مجدوب درب غلف"

لحسن العسبي: با دريس الخوري، صاحبي "مجدوب درب غلف" (التقطت هذه الصورة التي تجمع لحسن العسبي مع إدريس الخوري بالمركب الثقافي بالمعاريف سنة 1990)

هذه صورة لها عمر، هي من عمر صداقتي مع با ادريس الخوري (كاتب القصة القصيرة المغربي النقايمي الفنان)، التي تمتد على أكثر من 30 سنة. وهي صداقة بها تواطؤات خاصة بيننا، وفي سماوات مختلفة داخل المغرب وخارجه.. فقد ظلت مفتوحة على السكن في جغرافية التقدير، ذلك الذي لا يحتاج لكثير كلام ولا لتواصل لقاء.. وأجمل ما يتعلمه المرء من رجل مثل الكاتب المغربي ادريس الخوري، رؤيته للحياة والعالمين بعين طفل وبروح الشبع.. فهو رجل زاهد في العالمين، وفي لهفة بعضنا لأسباب حياة ليست سوى تفصيل لن يعيد أي أحد منا من القبر كما يقول المثل المغربي القديم..

 

في ادريس الخوري كثير من روح سيدي عبد الرحمان المجدوب. وهو مجدوب درب غلف وحي المعاريف والباطوار بالدار البيضاء، قبل أن يأنس (ولم أفهم قط كيف حدث ذلك معه هو بالضبط) بحي حسان بالرباط. هل هو جوار صومعة الموحدين، وثقل التاريخ الذي يحس أنه يمشي فوق أديمه هناك، وأنه يستشعر أن الحافر يقع على الحافر في تلك التربة الرباطية هناك؟. أم لأنه تعب من الأرض الملحوسة الجرداء لما تبقى من بلاد آنفا والبورغواطيين الذين كانوا في مديونة وسيدي مسعود وبوسكورة؟. بل إنني دوما أتساءل، ماذا لو بقي با دريس في سماوات البيضاء المصطخبة، ولم يسرقه هدوء الرباط ونفس الحياة فيها الأشبه بعزف طرب الآلة أو نقرات وتار الملحون، ألن يكون ذلك سببا لكتابة كما لو يقتطعها من لحمه، ذاك الذي سيظل يكتوي ب "مكر" البدو (هذا مصطلحه: "لعروبية") في جوطية درب غلف أو في حي غوتييه أو في حي النخيل أو سباتة أو ساحة السراغنة أو درب السعادة بالحي المحمدي؟. ألن نربح كاتبا سلس الرؤية للتفاصيل بعين المتأمل من فوق جبل (جبل الحقيقة)؟.

 

لقد خسرت كازا الكثير، بخسرانها با دريس الخوري، الذي اختطفته منها الرباط. أكاد أرى فيه واقعية وحمق بول أوستر الأمريكي في شوارع شيكاغو ونيويورك. أكاد أرى فيه مرارة بوريس فيون في أحياء العمال بباريس ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذاك الذي كتب نصا جميلا "سأبصق على قبوركم". أكاد أرى فيه خورخي أمادو، وهو يحكي قصة مدينته برازيليا وصراعها الرمزي الأبدي مع ريو ديجانيرو.. لو بقي با دريس في معمدان كازا، لاستكان أكيد إلى ضاحية سيدي عبد الرحمان الصخرية ولكتب هناك ما يكفي من المزامير البيضاوية الصوفية الآسرة.

 

لكن با دريس، على امتداد عمر، بطول قامته الفارهة، كما لو أنه يريد أن يقنعنا أن نتركه فقط في حاله، خيالا عابرا بين نقطتي مطر تحت غيمة الزمن، كما لو أنه مر من هنا (في الحياة) خطأ، وأن عالمه الحقيقي في مكان آخر. من هنا، ربما، ذلك الحزن العميق الساكن دوما بؤبؤ العين عنده...