Wednesday 17 December 2025
كتاب الرأي

راضية الدباغ: مشروع القانون رقم 16.22 المتعلق بتنظيم مهنة العدول مشروع بلا رؤية وتمثيلية بلا ترافع

راضية الدباغ: مشروع القانون رقم 16.22 المتعلق بتنظيم مهنة العدول مشروع بلا رؤية وتمثيلية بلا ترافع الدكتورة راضية الدباغ
حين يعجز القانون عن مواجهة السياسات ولوبيات الضغط لم يأتِ مشروع القانون رقم 16.22 في سياق مهني عادي، بل وُلد داخل بيئة معقدة تتقاطع فيها اعتبارات الإصلاح مع منطق السياسة، وتتنازعها لوبيات ضغط استطاعت، عبر الزمن، التأثير في مسار التوثيق بالمغرب. وبدل أن يشكّل هذا المشروع أداة تشريعية لمواجهة تلك الاختلالات، ظهر – في صيغته الحالية – عاجزاً عن تحصين المهنة من التدخلات، أو عن تحريرها من التوازنات غير المعلنة التي تحكم المجال.
 
لقد أخفق المشروع في بناء جدار قانوني صلب يحمي التوثيق العدلي من منطق الإقصاء التدريجي، وكرّس، بشكل مباشر أو غير مباشر، ازدواجية التوثيق كخيار تشريعي دائم، لا كمرحلة انتقالية. وهي ازدواجية لم تُدار بمنطق التكامل، بل بمنطق التنافس غير المتكافئ، ما أدى إلى إضعاف التوثيق العدلي والدفع به نحو الهامش.
 
إن أخطر ما يحمله مشروع 16.22 ليس فقط ما نصّ عليه، بل ما سكت عنه. فبغياب رؤية شجاعة تعيد الاعتبار لوظيفة التوثيق العدلي داخل منظومة العدالة، يتحول القانون من أداة إصلاح إلى عامل تسريع لمسار التآكل البطيء للمهنة، بل والدفع بها، موضوعياً، نحو خطر الموت التدريجي والزوال المؤسساتي.
 
من هذا المنطلق، تأتي هذه المذكرة لتُسجّل موقفاً نقدياً واضحاً، يستند ليس فقط إلى قراءة مهنية، بل إلى مرجعيات دستورية وكونية، تجعل من مساءلة مشروع 16.22 واجباً قانونياً وأخلاقياً.
 
فدستور المملكة لسنة 2011 نصّ صراحة في فصله الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي فصله 12 على ضرورة إشراك الهيئات المهنية والجمعيات المعنية في إعداد وتتبع وتقييم السياسات العمومية. كما أكد الفصل 154 على أن المرافق العمومية، ومن ضمنها المهن المؤطرة قانوناً، يجب أن تخضع لمبادئ الجودة، والشفافية، والمساءلة.
 
غير أن مشروع 16.22، في صيغته الحالية، يبدو متعارضاً مع هذه الروح الدستورية، إذ لم يُؤسَّس على إشراك فعلي، ولم يضمن توازناً بين السلطة والمسؤولية، ولا بين التنظيم والحماية.
 
وعلى المستوى الكوني، تقرّ المبادئ الأساسية لاستقلال المهن القانونية، كما وردت في توصيات الأمم المتحدة وفي التجارب المقارنة، بأن أي تنظيم مهني لا يحقق الاستقلال الوظيفي، ولا يؤمّن الحماية المؤسسية لأعضائه، يتحول إلى أداة ضبط بدل أن يكون إطاراً للعدالة.
 
وفي هذا السياق، تَصدق مقولة الفقيه الفرنسي مونتسكيو: «القوانين، في معناها الأعم، هي علاقات ضرورية تنبع من طبيعة الأشياء»، فإذا انفصل القانون عن واقع المهنة، وعن توازنات العدالة، فقد وظيفته، وتحول إلى عبء بدل أن يكون حلاً.
 
ويعضد هذا المعنى ما قرّره الفقه الإسلامي منذ قرون، إذ يقول ابن القيم: «العدل أساس الأحكام، وأي طريق أفضى إلى العدل فهو من الشريعة»، وهو ما يجعل من التوثيق العدلي وظيفة عدالة لا مجرد إجراء شكلي.
 
وفي المقارنة، يُلاحظ أن عدداً من التجارب المقارنة، كفرنسا وتركيا، اختارت تعزيز استقلالية التوثيق، وإحداث آليات مؤسساتية لحماية الأموال وتأمين الممارسة، إدراكاً منها أن تقوية التوثيق هو استثمار في الأمن القانوني، لا عبء على منظومة العدالة.
 
ومن عيوب مشروع القانون 16.22
أولاً: اختلال الرؤية الإصلاحية – قانون بلا أفق استراتيجي حيث يُلاحظ على مشروع 16.22 غياب رؤية إصلاحية شمولية تُحدد بوضوح موقع التوثيق العدلي داخل منظومة العدالة، ودوره في تعزيز الأمن القانوني والتعاقدي. فقد انحصر النص في إعادة ترتيب مقتضيات قائمة، دون الجرأة على معالجة الإشكالات البنيوية التي تعيق تطور المهنة، ودون استحضار التحولات الرقمية والمؤسساتية التي يعرفها المغرب.
 
إن إصلاحاً لا يجيب عن سؤال: «إلى أين نريد أن نصل بمهنة العدول؟» يظل إصلاحاً تقنياً محدود الأثر.
ثانياً: أزمة المنهج – إصلاح دون إشراك فعلي من أبرز علل المشروع أنه أُعدّ في غياب إشراك حقيقي وواسع للعدول، خصوصاً الكفاءات العلمية والخبرات المتراكمة داخل المهنة. فالمقاربة التشاركية، التي تشكل أحد مرتكزات الحكامة الجيدة، غابت لصالح منطق فوقي، جعل النص يبدو منفصلاً عن الواقع المهني اليومي.
 
وهو ما يطرح إشكال الشرعية المهنية للنص، قبل شرعيته القانونية.
ثالثاً: غياب صندوق الإيداع – خلل جوهري لا تفصيل تقني يشكل تغييب صندوق الإيداع عن مشروع القانون أحد أخطر نواقصه. فالأمر لا يتعلق بإجراء تقني، بل بآلية أساسية لحماية الأموال، وصيانة سمعة المهنة، وتحقيق الشفافية، وتحميل المسؤوليات بشكل مؤسساتي.
 
إن الاستمرار في تجاهل هذا المطلب التاريخي، مع الإقرار بخطورة تدبير الأموال، يعكس تناقضاً واضحاً في فلسفة المشروع، ويُفرغ خطاب الإصلاح من مضمونه.
رابعاً: قطيعة التمثيلية المهنية مع القاعدة العَدْلية أثارت مواقف رئيس الهيئة الوطنية للعدول، خاصة تبريره لمضامين المشروع والاكتفاء بها، صدمة واسعة داخل الجسم العَدْلي. فقد بدا الخطاب التمثيلي أقرب إلى الدفاع عن النص، بدل الترافع الصارم عن مطالب العدول، وفي مقدمتها صندوق الإيداع، والحماية المهنية، وتوسيع آفاق التحديث.
 
إن هذه الوضعية تعكس خللاً في وظيفة التمثيل، وتُحول الهيئة من أداة للدفاع الجماعي إلى وسيط لتدبير الاحتقان، وهو ما يُضعف الثقة المؤسساتية.
خامساً: الغموض التأديبي ومخاطر التأويل يتضمن مشروع 16.22 عدداً من المقتضيات التأديبية والتنظيمية المصاغة بعبارات عامة وفضفاضة، تفتح الباب أمام تأويلات متباينة، وربما انتقائية، في التطبيق. فغياب الدقة والضمانات الإجرائية يُهدد مبدأ الأمن القانوني، ويجعل العدول عرضة لاجتهادات غير منضبطة.
 
سادساً: هدر الرأسمال البشري والكفاءات العلمية لم يُولِ المشروع العناية اللازمة للكفاءات العلمية داخل المهنة، وعلى رأسها الدكاترة والباحثون، الذين كان من الممكن إدماجهم في مسارات التأطير، والتكوين، والاجتهاد التوثيقي. وهو ما يعكس تصوراً تقليدياً للمهنة، يُعيد إنتاج نفس البُنى بدل تجديدها.
 
المسألة التي تدفعنا للتسطير وبشكل جدي ومن واجب المسؤولية المهنية أن من أجل إصلاح شجاع وتمثيلية مسؤولة إن مشروع القانون 16.22، بصيغته الحالية، يعاني من نواقص وعلل تمس الرؤية، والمنهج، والمضمون. وهو ما يستدعي فتح حوار مؤسساتي جاد، وإعادة النظر في عدد من اختياراته الأساسية، قبل المصادقة عليه.
 
كما يفرض الظرف الراهن مساءلة دور القائمين على التمثيلية المهنية، ومدى وفائهم لانتظارات العدول، لأن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم دون تمثيل صادق، وشجاع، ومسؤول.
 
إن العدول لا يطلبون امتيازات، بل قانوناً منصفاً، واضحاً، ومؤسساً للثقة
وهي شروط لا غنى عنها لأي إصلاح يُراد له النجاح
 
 
الدكتورة راضية الدباغ عدلة موثقة باستئنافية طنجة – دكتورة في القانون – محللة سياسية مختصة في قضية الصحراء والوضع الأمني المغربي الإفريقي