أصبحتِ البلدان العربية في مؤخِّرة الترتيب في مجال التنمية البشرية حسَب المؤشِّرات العالمية في الوقت الذي عرفت فيه أمم العالم تقدُّماً ملموساً في مجال التنمية، بحيث حقَّقتْ نموّاً مُضطرِداً في جميع الميادين. وقد أكَّد مؤشِّر الأمم المتحدة وتقريرُها لعام 2019 أن الدول الأوروبية تتصدَّر هذا المشهد التنمويّ الهائل..
ومن المؤكَّد والغير القابل للجَدَل أن سبب ازدهار هذه البلدان راجع إلى استثمارِها في مواردها البشرية، من خلال الاهتمام بالتعليم والصحة اللّذين يُعتبَران الرّكيزتين الاساسيتين لنُهوض الأمم و تقدُّمها، فهذه البلدان الغربية تُخصِّص ميزانية هائلة لقطاع التعليم من أجل تعليم أبنائها تعليماً جيِّداً يتماشى ومتطلَّبات العصر، تتخرَّج من مدارسها ومعاهدها وكُلِّياتها أفواجٌ من خيرة العلماء والخُبراء في جميع التَّخصُّصات.
أمّا قطاع الصحة فهو اللبنة الأساسية لبناء مجتمع سليم صحيح. فالإنسان الأوروبي يَبْذُل و يُعطي ويُنتِجُ داخلَ وطنِه غايتُه ومرماهُ هو الرُّقي ببلدِه لِيتبوّأَ المراتب العلى بين دول العالم، وقد نجحتْ هذه الدول في تحقيق أهدافها من خلال التنمية البشرية لبلدانها وأصبحتْ شعوبُها تعيش في رفاهية ورَغَدِ العيش والكرامة الإنسانية، الشيء الذي يُغري الشباب في البلدان المتخلفة للهجرة إليها من أجل الشُّغل الذي افتقَدوه في بلدانهم ومن أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم.
إذا كانت الدول الغربية بالخصوص تستثمر في عُنصُرها البشري، فإنَّ مُعظم الأنظمة العربية تُهمل ثروتَها البشريَّة الهائلة ولا تهتمُّ بشأنها، فقد وصل التعليم فيها الحضيض من حيث الجودة وعصرنة مناهجه من أجل مواكبته ومسايرته للتقدم التكنلوجي الذي يعرفه عالَم اليوم، فهي مازالتْ تعتمد في تعليمها أساليب قديمة في التدريس، منظوماتُها التربوية والتعليمية مُتجاوَزة باليَة وقديمة ولا تُفكِّر في إصلاحها على الإطلاق، لا مدارس ولا معاهد ولا جامعات في مستوى التَّقدُّم الذي تعرفه أمم الأرض.
هذه البلدان معظمُها، إنْ لم نقُلْ كُلَّها تزخر بثروات طبيعية هائلة تَصِلُ عائداتُها إلى بلايين من الدولارات، وأصبحت مدارسُها تُخرِّجُ جحافلَ المُعَطّلين سنويّاً يتسكَّعون في الشوارع والازقّة والمقاهي لا يجدون أيّ منصب شغل ، وقد أضحَوا ثروة ضائعة ومُهمَلة ومنهم مَنْ سعِفهُ الحظّ وهاجَر إلى خارج وطنه، الى أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها (هجرة الأدمغة) فأضحوْا من النبغاء بعد استكمال دراستهم وبقَوْا في هذه الدول يشتغلون في كل المجالات تاركين أوطانَهُمْ مُرغمين ليعيشوا في الغُربة بعيداً عن الأهل والأحباب، لأن السُّلُطات في بلدانِهم لَفَظَتْهُمْ ولا حاجةَ لها بالعلماء ولا النبغاء ولا الخبراء ولا نيَةَ لها في بناء بلدانها على أسس متينة ديمقراطية تسودها الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم لشعوبها، أما القطاع الصّحي الركيزة الأساسية الثانية فقد عرف إهمالاً تامّاً، فالمشافي ترثي لِحالِها، لا بنايات في المستوى المطلوب ولا أطقُم طبيّة كافية ومؤهَّلة، الأدوية مفقودة في مُعظم المستشفيات بالإضافة إلى عدم توفُّرِها على المُعِدّات الطبيّة الحديثة والكافية لتلبية طلب المرضى الذين ينتظرون في غالبيَة الأحيان دورَهم للكشف أشهُراً عديدة،
إنها كارثةٌ عظمى تعيشُها شعوب العالم العربي في أغلبيتها، فقد استبشرت هذه الشعوب خيراً سنة 2011 عندما قامت الانتفاضات الشعبية المطالِبة بالتغيير (الربيع العربي)، إلا انَّ طموحاتها تبخَّرت وآمالها في التغيير اندثر وذهَبَ مع أدراج الرياح نظراً للتَّدخُّل الأجنبيّ، كما يبْدو، الرامي لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، لِكون الدول الغربية وغيرها المُتدَخِلة لإفشال أي تغيير في المنطقة العربية لا يَروقُها إنشاء أية ديمقراطية في المنطقة، لأن النظام الديمقراطي لن يُحافظ لها على مصالحها في هذه المنطقة، فالضامن الأساسي في ديمومة استنزافها لخيرات وثروات هذه البلدان هي الأنظمة القائمة التابعة لسياساتها منذ عشرات العقود...