الخميس 28 مارس 2024
سياسة

الشرقاوي الروداني: قطع أنبوب الغاز الجزائري الذي يمر عبر المغرب.. الأبعاد والمستهدف الحقيقي وراء القرار؟

الشرقاوي الروداني: قطع أنبوب الغاز الجزائري الذي يمر عبر المغرب.. الأبعاد والمستهدف الحقيقي وراء القرار؟ الشرقاوي الروداني مع صورة لجانب من انبوب الغاز الجزائري الذي يمر عبر المغرب

في استراتيجية بدأت أولى عملياتها سنة 2016، وهو تاريخ الإعلان الفعلي للإنشاء خط أنبوب الغاز العبر-القاري ما بين دولة نيجيريا والمغرب، مرورا بدول إفريقية، تقوم الجزائر بتنفيذ جزء من خطة ذات أبعاد استراتيجية شملت مجموعة من التدابير الأحادية الجانب تجلت بدايتها في قطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط. بعد ذلك، جاءت الخطوة الثانية والتي جسدها قطع للأنبوب الغاز الذي يمر من المغرب في اتجاه إسبانيا والبرتغال (ما بين 8 و10 ملايير متر مكعب سنويا من الغاز). هذا القرار في طياته، يظهر أن  الجزائر تحاول إضعاف محددات تزايد القوة الاستراتيجية الثابتة والمتغيرة للمملكة المغربية، وتفضل الهروب الى  الأمام في ضرب صارخ لطموحات الشعوب المغاربية التي تحلم بالتكامل الاقتصادي و التضامن الاجتماعي. في دراسة الخطوة الجزائرية، يتبين أن التأثير الاستراتيجي للقرار على الأمن الطاقي للضباط يبقى جد محدود، على اعتبار ان المنظومة الطاقية المغربية لن تتأثر بكذا قرار نظرا أن  الغاز لا يشكل إلا نسبة 5% في إنتاج الطاقة الكهربائية من مجموع المصادر الأخرى.

 

ومن تم، فالجزائر تثبت، عبر هذا السلوك اللامسؤول، أنها ليست شريكا موثوقا به ليس فقط على المستوى المغاربي و لكن على المستوى الدولي وذلك راجع لعدة أسباب.

 

في قراءة للأبعاد الخطوة الجزائرية وخلفياتها، يتبين أن السياسة الخارجية للقصر المرادية أصبحت عامل عدم استقرار في المنطقة المغاربية والمحيط الإقليمي برمته. على المستوى الأوروبي، سيكون هذا القرار بداية للتغلغل الروسي على المستوى الطاقي في دول أوروبا والتي تبلغ وارداتها من الغاز الروسي حوالي 43% من كمية الغاز المستهلك، دون نسيان تأثير دلك على تغيير في موازين القوى للدول أوروبا الوسطى. من بين النتائج الأولى، سيتقوى موقف ألمانيا في توجهاتها الداعمة للتوسيع وإقامة خط الأنبوب الغاز North Stream 2 الذي يعبر دول البالتيكBaltic .

 

في نفس السياق، يعتبر هذا القرار الجزائري ذا حمولة جيواستراتيجية لعدة اعتبارات. فالولايات المتحدة الأمريكية وفي علاقاتها مع برلين لا ترى بعين الرضى التقارب الروسي الألماني  تٌبقي موقفا معارضا للأنبوب الروسي الذي تعتبره واشنطن عاملا قد يقوض الاستقلالية السياسية للدول أوروبا؛ ومن ثم، يمكن فهم محددات الاختلاف في بعض السياسات بين أوروبا والسياسة العبر أطلسية لواشنطن.

 

في هذا الصدد، هذا القرار الجزائري له تبعيات أخرى ظاهرة ومبطنة، وتدخل محدداته في لعبة كبيرة ذات أبعاد دولية، ربما تتجاوز الفهم الاستراتيجي الضيق للقصر المرادية، تكلفت الجزائر بتنفيذ جزء من المؤامرة.

 

التقرير الألماني الشهير، والذي لم تتسرب منه إلا بعض الخطوط العريضة لخطة ما تسميه برلين "صياغة توازن جديد في شمال افريقيا"، وللإشارة دعا الدول الأوروبية إلى "معالجة" ما تسميه الدوائر الرسمية الألمانية "الاختلال" في التطور البيني للدول المنطقة خاصة بين المغرب والجزائر، قد يكون في مراحله الأولى في التنزيل. وبالتالي، فإنه من غير المستبعد أن تواجه الرباط حملات ومناورات جديدة في الأيام المقبلة تستهدف أمنها واستقرارها وأمنها القومي.

 

من الواضح جدا أن التقارب الألماني-الجزائري الأخير له أسباب ودوافع مازالت ملامحها قيد التشكل. لكن يبقى من بين أولويات الجزائر هو ترتيب استراتيجية توتر جديدة سيكون الهدف منها خلق مقاربات سياسية مغايرة تحد من تطور سياسات التحالفات الدولية مع الرباط ، خاصة بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها إلى المنطقة من خلال حسم اختياراتها الاستراتيجية باعترافها بمغربية الصحراء وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب افتتاح قنصليات عامة للدول عديدة في الأقاليم الجنوبية المغربية.

 

الطاقة هي عصب هندسة المحاور الاستراتيجية، وأهمية الأمن الطاقي وما له من تأثير على الأمن السياسي وسيادة القرارات الوطنية ليس سرا على أحد. ومن ثم، فإن الخطوة الجزائرية ليست إلا بداية مناورة ستضرب سيادة القرار الأوروبي ومواقفه في عدة ملفات عابرة للقارات. في الجانب الآخر، قطع الإمدادات الأوروبية من الغاز التي تمر عبر المغرب سيقوي أسهم الشركات الروسية – التركية والتي ستعرف خطوطها الطاقية، خصوصاTrans-Anatolian Gas Pipline TANAP ، انتعاشا جديدا سيقوي من محددات القوة التفاوضية لروسيا وتركيا اما دول الاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.

 

في تقييم للتكلفة الطاقية الأوروبية وما يوازيها من ارتفاع أسهم الطاقة، فإن القرار سيكون له تبعيات على السوق الطاقية الأوروبية. في هذا الصدد، أمام الاحتياجات الطاقية الأوروبية المتزايدة، فإن آثار القرار الجزائري تبقى غير محايدة. فاذا ما  استحضرنا استراتيجية السياسة الطاقية الاوروبية و التي اعتبرت ممر الغاز الجنوبي (Southern Gas Corridor) والذي يبقى مبادرة من المفوضية الأوروبية لطريق إمداد الغاز الطبيعي من بحر قزوين ومناطق الشرق الأوسط إلى أوروبا، فإن من المحتمل جدا أن نستشف بعض السيناريوهات المحتملة والتي قد تخلخل خطة البرلمان الأوروبي الذي يريد توازن بين حاجيات دوله الطاقية وإقامة علاقات توافقية لا تمس مصالحهم السيادية. ربط الماضي بالحاضر مهم في استشراف بعض المحطات المستقبلية في الصراع الدولي حول الطاقة. فالممر الغازي الجنوبي يشمل الطريق من أذربيجان إلى أوروبا عبر خط أنابيب جنوب القوقاز و TANAPوخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي  .TAP

 

هذا الجزء الاخير من الممر يبقى مركزيا  للممر الغاز الجنوبي، الذي يربط حقل غاز شاه دنيز العملاق في أذربيجان بأوروبا عبر خط أنابيب جنوب القوقاز وTAP. للإشارة فإن هذا الخط يعتبر ذا أهمية استراتيجية لأنه يتيح تصدير الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، وبالتالي يؤمن حاجيات مهمة من الاستهلاك الاوروبي للطاقة. وبالتالي، يمكن الرجوع إلى الوراء وفهم الصراع الاستراتيجي الأذربيجاني-الأرميني وطبيعة التحالفات والدعم العسكري الذي حسم المواجهة العسكرية.

 

ومن ثم،  فإن الرسالة الجزائرية عبر قطع انبوب الغاز، هي موجهة أولا صوب أوروبا والتي أصبحت تجمعها بالرباط مصالح مشتركة وتطابق للاستراتيجيات فيما يخص مجموعة من الملفات في غرب وجنوب المتوسط وداخل القارة الأفريقية. من جانب آخر، وعلى ضوء شبكة تقاطع المصالح الاستراتيجية الدولية، فالموقف الجزائري يخدم أجندة روسيا وتركيا، على اعتبار أن منظومة الخطوط الطاقية لأنقرا تعرف استثمارات روسية ضخمة، كما أن موسكو اعتادت على تقييد إمدادات الغاز لممارسة ضغوط سياسية على المستوردين، وهو ما كان جليا في ملف جزيرة القرم، سوريا، وبريطانيا.

 

في الأخير، سينقلب السحر على الساحر وستخسر الجزائر الكثير من العائدات المالية والتأثير الاستراتيجي في المنطقة. هناك احتمالات كبيرة بأن إسبانيا والبرتغال في طريقهما للبحث عن بدائل مستقبلية مستدامة على المدى المتوسط والبعيد. هناك يقين تام داخل الدوائر الأوروبية أن حالة اللايقين التي تسود في الجزائر والتي تترجمها قرارات انفعالية قد تضع هذه الدول الاوروبية، ذات يوم، أمام موقف صعب قد تكون له تكلفة سياسية وأمنية كبيرة. هذا المعطى، أصبح حاضرا في سيناريوهات واضعي استراتيجيات هذه الدول الذين أصبحوا يسابقون الزمن حتى لا يكونوا يوما ما رهينة أمام نظام جزائري قد يهدد الأمن الطاقي، ومن ثم الأمن السياسي لهذه البلدان...

 

في هذا السياق، استراتيجية الجزائر المكشوفة تبقى حساباتها  مرتبة على المدى القريب ويبقى الهدف الأخير ضمان استمرارية نظام سياسي-عسكري يعيش مراحلا صعبة، فيما يبقى تشكيل نظام دولي وإقليمي جديد أحد دوافع بعض الدول التي تناور من داخل غرف مغلقة.

 

في الأخير، الخطوة الجزائرية تروم، من بين أهدافها، إلى التأثير بشكل كبير على دول عديدة من أجل تغيير موازين القوى إلى جانب معادلات استراتيجية مهمة أصبحت تضع المغرب كدولة محورية في الهندسة العامة الإقليمية. وبالتالي، فإن كل هذه المناورات الجزائرية هي ذات أبعاد تصبو التأثير على جيوسياسية المملكة المغربية ومحددات قوتها الخارجية وقد لا نتفاجأ بقرارات أخرى أكثر عدائية تمس الأمن القومي الوطني. لكن، وإن لم يتضرر المغرب من هذه الخطوة، فإن من الواضح أن جيوسياسية الطاقة في منطقة غرب المتوسط وشمال افريقيا ستعرف تغييرات مهمة. من بين محددات هذا التغيير يمكن توقع دخول أطراف أخرى كانت تتصيد هذه الفرصة للانقضاض على سوق مهمة وواعدة.

 

على المستوى الوطني، رب ضارة نافعة، والبحث عن استراتيجيات طاقية شاملة ومستدامة هو السبيل الوحيد للتحقيق الاكتفاء الذاتي وتنويع الإنتاج الطاقي عبر استثمارات جديدة وتوريد عبر سلاسل طاقية موثوقة من أجل رفع تحدي التنمية الشاملة. أمام التحولات الهيكلية التي تعرفها المنطقة وما يوازيه من عالم جديد يتشكل بعد جائحة كورونا، فإن الشعوب المغاربية تحتاج إلى التضامن والتعاون من أجل رفع التحديات المشتركة والانخراط في سياسات تخدم المصير المشترك. أمام الوضع في الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء وحالة الترقب التي تعيشها ليبيا فمن المهم قراءة التاريخ الذي يعلمنا بأن الحروب تبدأ عندما تعتقد الحكومات أن ثمن العداء رخيص. ربما الأمر في البداية، ولكن في الاخير، كما يقول شكسبير، كل من يجري وراء طموحه الجارف فهو يجري وراء اندثاره...