الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد المجيد طعام: سذاجة الوعي السياسي..العامة في حالة تيه بين انتصار وانهزام "إخوان المغرب"

عبد المجيد طعام: سذاجة الوعي السياسي..العامة في حالة تيه بين انتصار وانهزام "إخوان المغرب" عبد المجيد طعام
بفوز الأحرار بأغلبية مقاعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما ترتب عنه من نقاش حول الحكومة الجديدة، ومدى قدرتها على تحقيق سلم اجتماعي حقيقي، عادت بي الذاكرة إلى سنة 2011، غير أنها تحفزت لاسترجاع لحظة دخولي إلى صالون صديقي عمر الحلاق الذي لم أغيره طيلة أربعين سنة ...
أتذكر أنني أخذت مكاني بين الجالسين، أنتظر دوري لأحلق شعري، فإذا بي أجد نفسي وقد أسرت بنقاش سياسي ساخن، انخرط فيه كل المنتظرين المتواجدين بالصالون، حول حدث تكليف بنكيران بتشكيل الحكومة .
نظرا لأن الحدث اعتبر استثنائيا في تلك الفترة، لم يستأثر فقط باهتمام الجالسين على كراسي قاعات الانتظار والمقاهي، وإنما اهتم به الرأي العام الوطني والدولي، لأنه جاء في سياق سياسي واجتماعي استثنائي، السياق الذي أفرز الربيع العربي، واندلاع مظاهرات 20 فبراير في بلادنا، حينما خرجت الفئات الشعبية تطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لامتصاص الغضب الشعبي وتجنيب البلاد عدوى الربيع العربي، استقدم النظام الحزب الإسلامي العدالة والتنمية بزعامه الشعبوي بنكيران .
تكليف بنكيران بتشكيل الحكومة، هدأ الوضع وبعث نوعا من الأمل في النفوس، واعتقدت الفئات الشعبية أن كل المشاكل التي تراكمت ستجد أخيرا طريقها إلى الحل.
لكن التفاؤل الطوباوي الناتج عن غياب وعي سياسي ناضج، حرك في نفوس العامة أحلاما طفولية، عكست نسبة السذاجة السياسية. شعرت العامة، وكأنها أمام فرصة جديدة لكتابة تاريخ جديد، تحت هدي حزب إسلامي بعثه الله ليجدد لها سياستها ولينشر العدل والمساواة.
لقد ظنت العامة المتكونة من الفئات الأمية والمتعلمة، أن بنكيران يملك الحلول لكل المشاكل، هو صاحب المصباح / الفانوس السحري، يجمع حزبه نخبة طاهرة نقية تقية من المؤمنين الصادقين، الذين سيحولون البلد من حال الفساد والتخلف إلى حال الصلاح والتقدم، وبفضل إيمانهم ستصبح المدرسة العمومية ناجحة والمستشفى العمومي قادرا على علاج الفقراء والشغل متاحا لجميع الشباب الذين قهرتهم السنوات العجاف التي لم تنته منذ فجر الاستقلال .....
وأنا جالس داخل صالون الحلاقة أنتظر دوري، كنت أنصت للسذاجة السياسية وهي تتراقص أمامي على إيقاع ضربات المقص، كنت أرى فانوس علاء الدين السحري يقفز من ذاكرتي الطفولية، ليصطدم بالأمواج العاتية للإكراهات السياسة والاقتصادية والاجتماعية، ويتكسر أمام صخرة البنك الدولي الذي ما فتئ يرسم سياستنا الداخلية والخارجية، ويضع خطط وبرامج تعليمنا ويقنن الأسرة والدواء بمستشفياتنا.
فجأة توقفت رحلتي وسط صحراء قاحلة من السذاجة، حينما ارتفع صوت أحد الجالسين بجانبي على كرسي الانتظار صارخا:" الحمد لله للي عشنا حتى شفنا الإسلام يحكمنا .... الحمد لله وسبحان الله والله أكبر.. أخيرا خرجنا من الجاهلية ... إنه فتح إسلامي عظيم ... كل الخير ينتظرنا مع هذا الحزب الفاضل ... الفقير سيشبع، الشبان والشابات غادي يتزوجوا، وغادي يغبر الفساد والتبرج ... الحمد لك يا ربي .. لقد أنعمت علينا بنور الإسلام، بعد هذا النصر البرلماني المبين ... الحمد لله "
لم أدخل مع الجالس بجانبي على كرسي الانتظار في نقاش، التزمت الصمت، لأن أرضية وشروط النقاش غير متوفرة، لكن ما أحزنني كثيرا، أنني لمست عمق السذاجة التي يتخبط فيها المجتمع، والتعامل مع السياسة بالبديهة والانفعال، والابتعاد عن الرؤية العقلانية والتحليل والفكر النقدي.
بمجدر ما فسح المجال للبيجيدي ليصل إلى السلطة، ظنت العامة بفئتها الأمية والمتعلمة، أن التغيير المنشود قد تحقق، بل رأى الكثير من المتعلمين أن الصحوة الإسلامية بدأت تنضج ثمارها بوصول الحزب الإسلامي إلى السلطة، وكأن انتخابات 2011، هي الفيصل بين عهدين متناقضين، عهد ما قبل الإسلام وعهد بداية الإسلام.
مثلت العامة بفئتيها الأمية والمتعلمة ،الكتلة الناخبة التي صوتت بكثافة لصالح العدالة والتنمية، لكنها في نفس الوقت عبرت عن وعي مغرق في السذاجة السياسية، وأبانت عن غياب تام للوعي السياسي الناضج وفقر كبير على مستوى الفكر والثقافة، وهذا ما يعتبر من المؤشرات الأساسية الدالة على أن المجتمعات التي تعرف العوز الثقافي والسياسي واللغوي، لا يستطيع أفرادها أن يميزوا بين الواقع وشعارات الاستهلاك السياسي ، كما يعيشون فقرا لغويا رهيبا، يحول دون أن ينشأ بينهم تواصل عقلاني ، إضافة إلى أنهم لا يملكون آليات تحليل الخطاب السياسي، ولعل هذا الفقر البنيوي هو ما جعل خطاب بنكيران يلقى إقبالا شعبيا كبيرا على الرغم من أنه شعبوي هزيل ومبتذل .
لقد تقاطعت النخبة المتعلمة والعامة، في الجهل والسذاجة، وبدا وكأن المجتمع بكامله دخل زمن التيه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولم يعد أمامه إلا حل التشبث بالأوهام، أو البحث عن الجاهز المتاح، وأمام غياب بدائل جادة وواقعية سقط المجتمع في حالة تقديس حزب الإسلام سياسي لمجرد أنه يذكره بالموروث والماضي .
لقد أبانت العامة والنخبة المتعلمة أنها جاهلة بالآليات المتحكمة في السياسة والدينامية الفاعلة في المجتمع، ولا تدرك أنه لا يمكن العمل بالإسلام في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد والتعليم.
لقد أكد هذه الحقيقة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي صدر منذ سنة 1925، فما بالنا اليوم ونحن نعيش شروطا تختلف اختلافا جذريا عما عاشه الأسلاف، عصرنا يفرض علينا تحديات جديدة وانخراطا كبيرا في مجال العلم والمعرفة.
مرت عشر سنوات، على معجزة الفانوس السحري، دون أن يحقق أية انجازات للفئات الشعبية، حقق فقط إنجازات فضائحي وفتوحات جنسية فاقت المتوقع، كان لها الأثر الوخيم على التسيير والسلوك والخطاب بداية من السطوعلى المكتسبات الشعبية ووصولا إلى التطبيع مع إسرائيل. كل الإخفاقات التي حصلت في عشرية البيجيدي دفعت بالعامة الأمية والمتعلمة إلى أن تغير موقفها، لكن هذا الموقف الجديد لا يعكس تحولا في الوعي السياسي وإنما يعبر فقط عن ردود فعل انفعالية، ناتجة عن اختيارات الإسلاميين التي مست مصالح فئات عريضة من المجتمع، وهكذا ستغير العامة وجهتها، نحو ثلاثة أقطاب حزبية هي: الأحرار والاستقلال والبام ، ما يؤكد استمرار الوعي السياسي الساذج وتحكمه في العامة وإن كانت متعلمة.
بعد مرور عشر سنوات على الفتح السياسي في بعده الديني، كلما قصدت صالون صديقي الحلاق، إلا وبحثت بعيني في فضائه، عن ذلك الشخص الذي كان يجلس بجانبي، لعلني أصادفه فأسأله:" كيف حالك بعد أن عشت عشر سنوات تحت راية الإسلام السياسي؟" للأسف، منذ 2011 لم أصادف ذلك الشخص، الذي بشرني بحياة النعيم في ظل حكم الإسلام السياسي، كنت أصادف الكثير من الغاضبين ، لكنهم استمروا في البحث عن التغيير ،بالاعتماد على نفس النخب الحزبية القديمة ،التي تعتبر سببا رئيسيا ،في الأزمة التي نعيشها.
حقق حزب الأحرار نجاحا كاسحا في انتخابات 2021 ،وتم تكليف أمينه بتشكيل حكومة ذات أغلبية مريحة ، بدأت المشاورات ، استضاف أخنوش الكثير من أمناء الأحزاب ، من بينهم الأمين العام لحزب جبهة القوى الديمقراطية . مباشرة بعد انتهاء الجلسة التشاورية خرج السي بنعلي مبتهجا ، هنأ المغاربة بانتصار الديمقراطية ،وصرح :"لقد تحولنا من مشروع الدولة الإسلامية إلى مشروع الدولة الليبيرالية "
كان تصريح أمين حزب جبهة القوى الديمقراطية كافيا ليثنيني عن البحث عن ذلك الشخص الذي كان يجلس بجانبي في صالون الحلاقة، قررت ألا أبحث عنه أبدا، لأنني أدركت أن السياسيين في بلادنا، يستثمرون في الفقر، كما أشرت في مقال سابق ، كما يستثمرون في السذاجة ،ليستمر نفس العبث السياسي.
استطاع السياسيون أن يوجهوا الرأي العام ، أقنعوا الشعب أنه كان يقف على شفا جرف هار ، بسبب حزب الإسلام السياسي نكان على وشك أن تضيع منه كرامته وحريته ومستقبله بفعل التخطيط لمشروع الدولة الإسلامية ، لكن فطنته السياسية وجهته ليعاقب الإسلاميين فطردهم من السلطة وأفشل مشروعهم وتبنى مشروع الدولة الليبيرالية ،الآن سيعيش كل الشعب في بحبوحة الرخاء والأمن والاستقرار ، وهكذا سترتفع الأصوات تعدد منافع و أهمية الليبيرالية ، وإن كانت العامة بكل فئاتها الأمية والمتعلمة لم تستوعب أبدا ما وقع ولم تشارك في أنجازه بتاتا ،كما أنها لا تفهم معنى الليبيرالية .
شاركت في المشروع الجديد / القديم ثلاثة أقطاب حزبية: الأحرار والبام والاستقلال، تقاسموا بينهم المسؤوليات والمناصب وكأنهم يتقاسمون تركة ميت، في المقابل ظلت السذاجة السياسية سيدة الموقف، واستمرت العامة بكل فئاتها الأمية والمتعلمة، تتحمل تبعات العبث السياسي، بسبب عدم نضج وعيها الثقافي والسياسي.
إن العامة بكل فئاتها الأمية والمتعلمة ساذجة، لاوعي لها، ولا رؤية مستقبلة تترجم طموحاتها مطالبها، تعيد إنتاج أخطائها، ولا تستفيد من تجاربها.
العامة لا تدرك خطر الإسلام السياسي ولكنها مستعدة للتصفيق لأي حزب يرفع شعار الإسلام ،كما فعلت مع حزب العدالة والتنمية الذي جاء لخدمة ملفات سياسية حرجة ،وليمرر قرارات البنك الدولي ، مرة أخرى وبدون أن تعرف العامة شكل الليبيرالية التي تطبق في بلادنا ، وإن بشكلها الرأسمالي المتوحش ، نجدها قد دعمت الأحزاب التي تتبناها وصفقت لها ،لمجرد أن حزب الأحرار أسال لعابها ،بشعارات انتخابية لا يمكن إنزالها على أرض الواقع :" غادي نزيدو لرجال التعليم 2500 درهم ، غادي نزيدوا للأطباء ..غادي ... غادي ...إلخ " فرحت العامة ،وهتفت عاليا :" بنكيران سلخنا وها أخنوش غادي يتهلا فينا "
لا تدرك العامة بكل فئاتها الأمية والمتعلمة ، أن السياسة تعتمد على الخدعة والحيلة ، وتتطلب وعيا ناضجا لتحليل الخطاب السياسي ،كما لا تدرك أن الأحزاب لن تصلح لأي شيء، وإنما ستعمق أزماتنا ،إذا لم تمارس الديموقراطية الداخلية أولا ،و لم تعمل على تحيين مرجعياتها ومنحها بعدا فكريا فلسفيا ، وإذا لم توجه اهتمامها إلى المجتمع لتأطيره ، وإنضاج وعيه ليصبح قوة فاعلة حقيقية، إذا استمرت أحزاب تبحث عن الاستفادة من الريع، وأخرى تلعب دور الكومبارس ،لن يتغير الوطن ،لا اليمين سيغير شيئا ولا اليسار سيغير شيئا ... اعتذر سأتوقف عند هذا الحد، لأن دوري قد حان لأجلس على أريكة الحلاقة ،وأترك للمقص حريته ليعزف على شعري سمفونيته .