تحل ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله عز وجل هدى ورحمة للعالمين، وإذا كانت المناسبة الشريفة، تفرض النبش في تضاريس السيرة النبوية العطرة، وإبراز ما تزخر به من أخلاق ومثل وقيم إنسانية ومناهج في الحكم والتدبير والحياة والعيش المشترك، فهي في ذات الآن، فرصتنا نحن المسلمين بكل انتماءاتنا، لنستوعب ما يجمعنا من مشترك ديني ولغوي وثقافي وتاريخي وهوياتي وحضاري، يفترض أن يكون قوتنا الدافعة نحو المزيد من الوحدة والتعبئة ولم الشمل ورص الصفوف وتجاوز النعرات السامة والخلافات الهدامة، والانخراط في قضايا التعاون والنماء، لمواجهة ما يهددنا من مخاطر وتحديات ومن رهانات آنية ومستقبلية، في محيط إقليمي ودولي، تتقاطع فيه لغة المصالح والحسابات والتوازنات، بتنا فيه بلغة الإعراب "مجرورا" و"مفعول فيه" و"ضميرا مستترا".
يؤسف له أننا لم نعد نلتفت إلى بعضنا البعض وننتبه إلى عروبتنا وإسلامنا، إلا بمناسبة الأعياد والمناسبات الدينية، عبر برقيات تهاني باردة برودة الشتاء غارقة في بحر المجاملة الأقرب أحيانا إلى النفاق، يتبادلها قادتنا وزعماؤنا، بعدما بتنا شيعا وفرقا ومذاهب، بارعين في إثارة النعرات وصناعة القلاقل، وإنتاج أسباب التفرقة والضعف والشتات، ومجتهدين في التربص ببعضنا البعض والتباري بكل هلوسة وحمق وجبن، في إضعاف وإسقاط بعضنا البعض، دون أن ندري أو نعتقد، أننا نحكم على شعوبنا وأجيالنا القادمة بالبقاء رهائن الهوان والتفرقة والحسد والعداء، بل وبالبقاء خارج دائرة التباري والتأثير والإشعاع والإسهام في صناعة القرار والتاريخ.
من المحيط إلى الخليج، ومن الرباط إلى الرياض، ومن تونس إلى بغداد ومن موريتانيا إلى الخرطوم، ومن اليمن إلى دمشق، ومن بـيروت إلى القدس، كل منا يغني على ليلاه، في واقع إسلامي وعربي على وجه التحديد، تكاد تختفي في سمائه، شمس الدين والأخوة والعروبة وحسن الجوار والمصير المشترك، مصرين بوعي أو بدونه، على رسم خريطة عربية إسلامية، تطبعها ألوان الضعف والهوان والتفرقة والشتات والأنانية المفرطة والنعرات الخفية والمعلنة، ملحين على استنزاف الطاقات وهدر المدخرات الذاتية، لحرمان بعضنا البعض من الحق المشروع في الوحدة والأمن والاستقرار والنهوض والنماء والرخاء، باتباع كل الطرق القبيحة والمسالك الحقيرة، ولو تطلب ذلك وضع اليد في يد الغرباء، الذين يسعدهم ما نحن فيه من خلافات ونزالات، تقودنا إلى المزيد من البؤس والحقارة والانحطاط، ويكفي قولا، ما نعيشه نحن المغاربة بسبب جار سوء، لم يتعب منذ ما يزيد عن الأربعة عقود، من المؤامرة والاستفزاز واللغط والتحرش، ولم ييأس من هدر الإمكانيات الذاتية، لاستهداف وحدتنا وأمننا وضرب مصالحنا الاقتصادية والاستراتيجية، في إطار لعبة حقيرة وقدرة، لا تعترف بدين ولا بعروبة ولا أخوة ولا حسن جوار ولا لغة مصالح مشتركة.
وبلغة الواقعية ومفهوم المخالفة، لو تنازل نظام السوء عن حمقه وعناده وتصرفاته الأقرب إلى "المراهقة السياسية"، و"نعل الشيطان"، واحتكم إلى سلطة العقل وعين الحكمة، واستحضر ما يجمعنا من مشترك ديني ولغوي وثقافي وتاريخي وهوياتي، كان بالإمكان الشروع في بناء صرح علاقات مغربية جزائرية متينة، تستمد قوتها من المشترك الديني والثقافي والحضاري الذي يجمع الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، ومما يزخر به البلدان الجارين من خيرات وموارد طبيعية وبشرية على جانب كبير من الغنى والثــراء، قادرة على جعل البلدين نموذجا للوحدة والتعاون والنماء والرخاء والازدهار في إفريقيا والعالم العربي الإسلامي، وقاطرة محركة لمشروع اتحاد المغرب العربي الذي تعطلت عجلاته، بسبب عبث وعدم التبصر هذا النظام الذي بات "المغرب" أو "المروك" كابوسه المزعج آناء الليل وأطراف النهـار، دون إدراك ضريبة العداء الخالد للمغرب ووحدته الترابية على الجزائر ذاتها، وعلى أمن ووحدة واستقرار ونماء وازدهار الشمال الإفريقي من الرباط إلى القاهـرة.
وحتى نوضح الصورة، فالقارة الأوربية مرت بتاريخ طويل من الحروب والصراعات، كما مرت بحربين عالميتين مدمرتين، بسبب ما كانت تعيشه من صراعات ثنائية ومتعددة الأطراف ذات أبعاد قومية وترابية وإمبريالية توسعية، ولم تجد بدا من ترك كل أسباب الصدام والخلاف، والانخراط في مسلسل طويل من الاندماج المجالي والاقتصادي والمالي والاجتماعي، أسس لاتحاد أوروبي بات اليوم، قوة مؤثرة عالميا وإحدى القوى المشكلة للثالوث العالمي إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وهذا الاتحاد ما كان له أن يتحقق على أرض الواقع، لولا الإيمان المشترك للدول الأوروبيـة في أن التكتل والمصالح المشتركة، تسمو فوق أي اعتبار آخر مهما عظم شأنه، بعيدا عن النعرات القومية والمشكلات الترابية والحزازات التاريخية، ولا يمكن إلا نتأسف بكل حرقة، لأننا نمتلك كل شروط ومقومات الوحدة والاندماج، من دين ولغة وتاريخ وجغرافيا وثقافة وحضارة، ومن موارد بشرية وخيرات طبيعية تتنوع بين الفوسفاط والنفط والغاز والحديد والنحاس...، والثروات الغابوية والبحرية، ومن مؤهلات سياحية تجمع بين البحار والمحيطات والجبال والهضاب والسهول والواحات والصحاري والتراث المادي واللامادي، ومع ذلك، يصر بعضنا على حرماننا من الحق في الوحدة والاندماج والعيش المشترك في محيط عربي إسلامي آمن ومستقر ومتعاون ومزدهـر.
وحتى لا نبخس الناس أشياءها، لا يمكن إلا نثمن التجارب الوحدوية العربية القائمة، ونخص بالذكر تجربة مجلس التعاون الخليجي، الذي تأسس منذ أربعة عقود خلت، من قبل ست دول عربية مطلة على الخليج العربي والمشكلة لأغلبية مساحة شبه الجزيرة العربية، ويتعلق الأمر بكل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت ودولة قطر ومملكة البحرين، ومن حسنات بلدان الخليج العربي، أنها مازالت حريصة على حماية بيضة هذا الاتحاد العربي الإقليمي، ضامنة لاستمراره وإشعاعه الاقتصادي والتنموي والأمني والاستراتيجي، في منطقة جيواستراتيجية غير مستقرة، تشكل فيها الوحدة والتكتل ضرورة قصــوى، مقابل ذلك، مازال قطار اتحاد المغرب العربي متوقفا إلى أجل غير مسمى، بسبب نظام جار شقي وعنيد، شكل ويشكل سدا منيعا أمام أحلام الشعوب المغاربية في الوحدة والتعاون المشترك والرخاء والازدهـار، بسبب عداء تاريخي، لم يعد له أي مبـرر، لأن الدين والعروبة وحسن الجوار ولغة المصالح المبادلة، أقوى من أي اعتبار مهما كانت طبيعته أو مرجعيته.
مناسبة المولد النبوي الشريف، هي موعد سنوي لنفتخر بمولد سيد الخلق والبشرية جمعاء، المصطفى محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، ونعتز بسيرته العطرة والمشرقة الحبلى بالقيم والدروس والمعاني الإنسانية، التي أسست لرسالة الإسلام الذي ختم به الله العلي القدير الرسالات السماوية، وكان يفترض في مناسبة من هذا القبيل، أن نعتـز كمسلمين بوحدتنا وانتمائنا وتفردنا عن غيرنا وإسهاماتنا في الحضارة الإنسانية، لكن ليس أمامنا، إلا أن نبكي حالنا، لما وصلنا إليه من تفرقة وضعف وهوان وشتات، ومن تراجعات أخلاقية وقيمية، لأننا ابتعدنا عن القيم الإسلامية الحقة، وعاكسنا السيرة النبوية الشريفة بحمولتها الدينية والإنسانية، فتفرقت بنا السبل والاتجاهات، فبتنـا اليوم، نعيش أزمة هوية وأخلاق وقيم، رهائن أنانية مفرطة، تجعلنا بارعين ربما أكثر من غيرنا، في إنتـاج النعرات وإثارة القلاقل وصناعة شروط التفرقة والضعف والحقد والعــداء، وبما نقدم عليه من تصرفات غير مسؤولة ومن حماقات ومناورات غير محسوبة العواقب، تكرس ليس فقط، عنادنا وتهورنـا وتفرقتنا، بل وتمنح المتربصين بنا، الفرصة للتكالب والتلاعب بنا، بما يخدم مصالحهم الآنية والمستقبلية، في وقت تتصرف فيه الأمم المسؤولة بمنطق الصداقة والتعاون والمصالح المشتركة، التي تتحقق معها أهداف النمـاء وغايات السلام والرخاء، بعيدا عن طقـــوس النعرات والقلاقل والمؤامرات.
على أمل أن تكون ذكرى المولد النبوي، فرصة ليتحرك فينا الضمير الإسلامي والإنساني، ونجنــح فرادى وجماعات إلى الوحدة والسلم والتعاون والخير والنمـاء والازدهــار لما فيه خير لشعوب العالم، لأننا نمتلك شروط الوحدة ومفاتيـح النهوض والارتقــاء أكثر من غيرنا...، ونختم هذا المقال، بتهنئة كل الشعوب العربية والإسلامية بهذه المناسبة السعيدة، سائلين الله عز وجل، أن ينعم على العالم العربي الإسلامي بالوحدة والاندماج والرخاء والازدهار والاستقرار، وعلى شعوب العالم، بالأمن والسلام والتعايش والعيش المشترك.. عسى أن يظهر في الجارة الشرقية، حكماء وعقلاء، ينظرون إلى المغرب، بمنظور الأخوة والدين والتاريخ والثقافة وحسن الجــوار والوحدة والتنمية والرخاء والازدهـار، لأن الرهان على جعل المغرب عدوا كلاسيكيا، لن يكون إلا رهانا خاسرا، يكتوي بنيرانه، شعب جزائري شقيق، يستحق أن يعيش في ظل نظام حكيم وعاقل ومسؤول، يسعى إلى الخير، لا إلى العبث والتفرقة والخراب، كما هو حال النظام القائم هداه الله.