الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

 أحمد زكرد: الجدوى من تعلم الفلسفة

 أحمد زكرد: الجدوى من تعلم الفلسفة  أحمد زكرد
لا ريب أن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه عند حديثنا عن الفلسفة أو عند الشروع في تعليمها أو تعلمها؛ هو: ما الفلسفة ؟ لكن السؤال الذي يبدو أهم في البداية هو : لماذا الفلسفة ؟ هذا الأخير هو سؤال الغاية و الجدوى، فإذا أردنا أن نجعل العلاقة بين الدرس الفلسفي و المتعلم علاقة إيجابية ، لا بد أن نجيبه عن سؤال لماذا ندرس الفلسفة ؟ وما الغاية منها ؟ وذلك بغية تصحيح التمثلات التي يأتي بها التلاميذ من محيطهم؛ و التي تختصر في أن الفلسفة كلام فارغ بلا معنى ، وأن الفلسفة ضد الدين ، و أن الفلسفة تؤدي بمن يَدرسها و يُدرسها إلى الجنون… لهذا ينبغي بادئ ذي بدء تسلط الضوء على هذا السؤال، سؤال الجدوى، الذي يقودنا إلى طرح أسئلة من قبيل : هل الفلسفة ضرورية لنا ؟ وهل نحن في حاجة إليها ؟و ما الغاية من تعليم وتعلم الفلسفة ؟ …
لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ، يجب أن ننطلق من طبيعة الفلسفة ذاتها، بما أن الفلسفة هي تفكر حر حول القضايا الانسانية؛ وبما أن الفلسفة تسعى إلى الحقيقة وإلى خلق إنسان مفكر و واع يعرف كيف يستخدم عقله في مقاربة المواضيع كافة؛ فإن الغاية من تعليم الفلسفة هي تحرير الإنسان من القيود الخارجية والداخلية. حيث يستطيع المتعلم بموجب الدرس الفلسفي استخدام عقله استخداما منطقيا وحرا وبكل جرأة وحرية ،لان الحرية هي شرط تنمية الفكر الذاتي وقد عبر عن هذا دريدا بقولة : " تسعى الفلسفة الى خلق اناس احرار ، هذا ما هو مفترض من خلال تعليمها." . إذ يجب عليه (المتعلم) أن يخرج من درس الفلسفة أفضل من ما كان عليه من قبل ، حتى يتمكن من مواجهة ما أفسده المجتمع على مستوى التربية و التنشئة ، ليكون استقلالية التفكير ، ويصيح قادر على طرح المشاكل وتحليلها ومناقشتها وفهم أبعادها حتى يتمكن من تقديم قراءة صحيحة ، ويصبح نموذج أخلاقي في المجتمع ؛ يقول فرنسوا شيني : ان الهدف الأبعد من تعليم الفلسفة ، والذي يتخطى المحتوى والمسيرة الفكرية ، هو ذلك الذي يطال المسيرة الاخلاقية للمتعلم . فالأخلاق وبصفة عامة القيم هي أكثر ما يحتاج اليه الانسان المعاصر ، عموما فالفلسفة تسعى إلى زرع القيم الكبرى في المتعلم ودفعه إلى تحسين سلوكه في المجتمع ، قد حان الوقت في عصرنا عصر التكنولوجيا والعولمة لتعليم القيم الفلسفة ، حتى نتمكن من خلق المواطن الذي يبني وطنه و ويبني شخصيته ويسعى لنشر السلام بين الإنسانية جمعاء كواجب اخلاقي يفرضه العقل العملي الأخلاقي كما عبر عن ذلك كانط ، فالفلسفة ليست منقطعة أو متعالية عن العالم، بل إنها تدخل في صلب حياة الناس اليومية وهمومهم ومشاكلهم ، هذا ما أشار إليه هيجل عندما اعتبر أن دور الفلسفة هو التنشئة الفكرية و الاخلاقية لكي يصبح الانسان قادر على ملء واجباته تجاه الآخرين .
نحن في حاجة إلى الفلسفة حتى لو لم نكن في حاجة إليها ، قد نلحق بركب الحضارات المتقدمة ، بدون فلسفة لكن لن نستطيع أن نبدع أنساقا جديدة في العلم أو أن تقترح نظاما أخلاقي أو سياسي جديد يتمشى مع تطلعات الإنسان المعاصر…. لأن العقل الدوغمائي ( الوثوقي) الاستهلاكي الذي يتلقى المعرفة دون مساءلتها ، لا يستطيع أن يبدع لا في العلم و لا في الأخلاق ولا في السياسة …وبما ان الفلسفة أُم العلوم ،لذا فهي تمارس حقها في الرقابة ، فكل العلوم تحتاج الى الابستمولوجيا (فلسفة العلم ) كي تخرج من الأزمات التي تقع فيها ، لأن الفلسفة تتحدث عن تصبح العلوم في عنق الزجاجة . بالإضافة أن العلوم تحتاج للرقابة الاخلاقية ( الفلسفة الاخلاقية ) لكي تضع له ( العلم) ضوابط حتى لا يحيد عن الاهداف الانسانية التي تطمح الى الحفاظ على هذا الكون و عن نوعنا البشري وليس تدميره، لأن هناك حدا للعلم يقف عنده .
لذا أصبح من الضروري تعلم الفلسفة؛ هذا شيء نعرفه ونعترف به ؛ فالإنسان بلا فلسفة كما يقول ديكارت هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما ( روني ديكارت مبادئ الفلسفة)؛ فالفلسفة هي القدرة على الرؤية من زاويا أخرى للوجود وللحياة، بالفلسفة استطاع العقل الإنساني أن يفكر في العالم وفي الحياة و في الذات و في الحضارة والسياسة في الطبيعة و الثقافة في الموت و الحياة، قارب بواسطة العقل قضايا الوجود و الزمان و الكينونة و المعنى …
إن الاهتمام بالفلسفة هو اهتمام بالعقل و الاهتمام بالعقل هو اهتمام بالإنسان و بحقوقه وفي مقدمة هذه الحقوق ،حقه في التفكير و في الاختلاف وكذلك الحق في التساؤل و النقد ، و يمكن أن نعتبر أن الفلسفة هي وحدها التي تمنحنا هذا الحق بل إنها تدافع عنه بإصرار. باختصار فان تعليم الفلسفة يجعل المتعلم قادر على وضع ثوابته وقناعاته موضع تساؤل ، وهذا يقلل من العنصرية و العرقية والتعصب ...ويؤمن ارضية مشتركة للتلاقي و التفاهم و التعايش بين مختلف الشعوب على اختلاف انتماءاتهم الفكرية و العرقية و المذهبية .
وعندما نقول أن الفلسفة هي العقل والعقل هو الانسان، فإن الإنسان هو الفلسفة ، ولعل هذا ما أرد أن يشير إليه ديكارت عندما قال : الفلسفة هي وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين و الهمجيين . بهذا يكون الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن الإنسان كذات واعية ومفكرة تحمل قيمة مطلقة في ذاتها، لأنه في الحقيقة دفاع عن العقل الإنساني نفسه. فالفلسفة لا تحتاج لحجج و براهين لنؤكد أهميتها وجدواها، لأن كل الحضارات التي ننظر لها اليوم باعتبارها النموذج في التقدم قد ارتقت صعودا على سلم الفلسفة نحو تحسين قدرة الإنسان على التفكير في مواجهة الأوهام وتحسين قدرته على العيش في مواجهة الشقاء والألم الذي تحمله الطبيعة للإنسان .
باختصار أهم ما نتعلمه من الفلسفة هو الاختلاف والإيمان به كضرورة إنسانية للعيش معا ؛ لأن كل إنسان له فلسفته الخاصة تدفعه نحو تبني قيم معينة ، تجعلنا نخلق عالم مشترك مبني على الاختلاف أساسه التواصل و الحوار. و تعمل الفلسفة كذلك على تشكيل عقل الفرد بحيث يصبح قادر على التفكير الناقد وامتلاك الحس النقدي، الذي يجعله لا يقبل المعرفة الجاهزة إلا بعد تمحيصها و التدقيق فيها ، وهذا يخول له التحرر من الأحكام المسبقة و العادات و التقاليد البالية . فالنقد كما يقول كانط هو أفضل أداة بناء عرفها العقل البشري . ولا تتوقف أهمية الفلسفة – كما قلنا- عن الفرد فقط بل لها دور مهم كذلك على المجتمع ويتجلى ذلك في تحقيق وعي جمعي حول الكثير من الأمور السياسية و الاقتصادية … وبالتالي تعمل على إصلاح المجتمع من خلال تطوير الحياة فيه وذلك انطلاقا من مبادئ وقيم فلسفية كونية باعتبارها التتويج الاقصى للمشروع الإنساني. فنحن نحتاج إلى فكر فلسفي من حيث هو فكر إنساني يعمل على اقامة ثورة في الفكر البشري ،و يتغلغل في ممارستنا و في أخلاقنا ، لأن عقلنا العربي الاسلامي ردم تحت ركام التراث فأصبحنا كائنات تراثية أكثر من كوننا كائنات ثقافية ، نقدس الشيوخ والماضي و نهمش دور العقل والتفكير.
 
 أحمد زكرد، أستاذ مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي