وهو رجل، كلمة لا نقصد بها المروءة أو الرجولة ولكن الغرض منها تحديد نوع الجنس ذكر كان أو أنثى. بهذه الكلمة قدمه الإمام الى جموع المصلين بداية صلاة الجنازة ... لم يذكر اسمه العائلي ولا حتى الشخصي... ولم يذكر انتمائه الحزبي، أو صفته السياسية أو رقم ترتيبه في اللائحة الانتخابية ... كان الرئيس يتابع طقوس جنازته وهو ملفوفا في ثوب الكفن من داخل الصندوق المحمول على النعش الخشبي... كان يحاول التنثر بلا جدوى . كأنه يحاول الاستغاثة قصد الإفلات من العقاب والعودة من جديد إلى الحياة بعد الفوز بالحصانة والتربع على الكرسي الذهبي ...
عدد الحاضرين لم يكن كبيرا كما كان يحلم و يتوقع، كل الحسابات كانت مغلوطة و خاطئة. كان يعتقد أن الأصوات المؤذاة الثمن وجماهير الفايسبوك المجمجمة له وأصحاب الصفحات الخاصة والحسابات الحاملة للأسماء المستعارة ستكون حاضرة بقوة وكثافة ... بسرعة البرق حاول مراجعة كل المنشورات في الصفحة الرسمية كي يقنع الحاضرين في مراسيم الدفن بإنجازاته التاريخية العظيمة. فلم يجد غير البلاغات والبيانات والتهاني والتعزيات وعناوين صيدليات الحراسة ومواعيد قديمة تخص انعقاد الدورات الاستثنائية ....
حاول البحث يمينا ويسارا عن ورقة وقلم، كان يفكر في صياغة بعض الوعود كي يقدمها يوم القيامة للعلن. فتذكر أنه لا يجيد القراءة والكتابة، ولم يجد غير الدموع وثوب الكفن ... الصندوق كان مظلما وبطارية الهاتف استنفدت كل مخزون الطاقة. حاول الاستعانة بشمعة صغيرة فاكتشف بأنها لن تضيء حتى نفسها وأنها من غير الممكن أن تشتغل بسبب نقص الاوكسجين وانعدام التهوية ...
كانت جنازة رسمية باهتة وغير مهيبة. جنازة غلب عليها البروتوكول ولم تكن شعبية. بالإضافة إلى المقدمين و الشيوخ حضر بعض المسؤولين بالنيابة .... درجات نارية تحمل علامة حمراء وبعض سيارات الدولة كانت حاضرة... كما حضر بعض المنافسين له في الانتخابات الجارية ...
عرفت هوامش المقبرة بعض النقاشات الثنائية ممن حضر من الأتباع و المرديين... لم يتكلم أحد عن خصاله ( الحميدة ) أو صفته الشخصية ، كل الحديث كان مقتصرا فقط حول من سيفوز بالرئاسة القادمة ...
كان الرئيس يسمع جميع الدردشات و التطلعات، و يتأمل جميع الوجوه الحاضرة، كان يصرخ عاليا و هو يتألم و يحاول التعريف بنفسه: أنا الرئيس واش معرفتونيش !!!
بدأ يحس ببعض التدحرجات والاهتزازات وتعالي أصوات الفقهاء بالتلاوة وبالدعاء " اللهم إن صاحبنا قد نزل بك وخلّف الدنيا وراء ظهره وافتقر إلى ما عندك .... أدرك أنه نازل الى الحفرة بلا رجعة ، حاول استعمال هاتفه الذكي لينقذ الموقف في اخر لحظة. لكن الارقام التي طلبها غير موجودة أو خارج التغطية ... بدأ يتصفح الواتساب والملتقيات الاجتماعية. ولم يجد غير رسالة واحدة منقولة ومتداولة داخل المجموعات تخبر بأن الرئيس قد مات، وتدعو الى عدم الإفلات من العقاب وربط المحاسبة بالمسؤولية ....
هكذا تنتهي المسرحية. يموت الرئيس الى الأبد ميتة تاريخية ومعنوية. وقبل يوم البعث يتجدد يوم القيامة وعذاب القبر أثناء مواجهة المواطنين والساكنة ... هكذا ينتهي المشهد ويزال الستار ... وعلى الركح تبقى الحاشية تنتظر لعب نفس الأدوار، وبعد انتهاء طقوس الجنازة وأكل وجبة العشاء، تتفضل للرئيس الفقيد بالدعاء مع التظاهر بقليل من الخشوع والبكاء، اللهم أرزق ذويه وأهله وحاشيته ولاحسي أحديته السكينة والطمأنينة على فقدان البزولة الحنينة واستبدال الهوية ...
إنها جنازة سوريالية ... لكنها جنازة سياسية حقيقية ... العديد من الرؤساء أصبحوا منذ اللحظة في عداد الموتى والمقودين. إنه العد العكسي نحو المقبرة ...
الى المقبرة وبلغة البولتيك إلى المزبلة. اللهم عشر كتاباتنا وعمم تدوينتنا ومن ينشرها له منا الف حسنة. اللهم تقبل منا واجب العزاء.