الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

بوفاة الدكتور بن حدو..المغرب يفقد منارة في علم النفس المرضي

بوفاة الدكتور بن حدو..المغرب يفقد منارة في علم النفس المرضي الراحل الدكتورمحمد بن حدو
كنت أتمنى أن القاه قبل وفاته، أن أقضي معه لحظة متعة فكرية وتحليل-نفسية في سراديب الإخفاقات النفسية ودلالتها الرمزية والإيحائية... كان هدفي هو أن أصافحه وأشد على يده النظيفة التي منها تسلمنا ذات زمان شهادة الإجازة في علم النفس...
الاستاذ بن حدو كان متخصصا في علم النفس المرضي والمقاربة التحليل – النفسية ، حيث إلى جانب كونه محاضرا وباحثا جامعيا، كان يساهم في تنمية وتطوير مقاربات العلاج النفسي بالتعاون مع بعض زملائه المتخصصين في الطب النفسي بفاس، نذكر منهم الدكتور المختار البيضا الذي بدوره استدعاه الراحل بن حدو ليدرسنا مادة لها علاقة بالأمراض النفسية وأعراضها السريرية، كما كان ينسق مع الراحل الدكتور "كريسون'" الفرنسي الجنسية الذي كان قيد حياته هو المسؤول عن وحدة الطب النفسي بمستشفى سيدي بوجيدة للأمراض النفسية بفاس، وقد كنا نقضي فترة تدريب طبي ميداني في هذا المشفى تحت إشراف الدكتور كريسون الذي بدوره كان يدرسنا مادة طبية نفسية تتعلق بالإضطرابات العقلية في السنة الرابعة من الإجازة في علم النفس، وقد كنا مطالبين بإنجاز بحث وتقرير بعد الانتهاء من التدريب السريري الذي كانت نقطته تحتسب في المعدل العام...
هكذا طور الراحل محمد بن حدو شعبة علم النفس بجامعة ظهر المهراز بفاس، وأسدى لها خدمات جليلة، وسهر على تأطير الطلاب المتخصصين في هذه الشعبة، وأشرف على ترجمات أمهات الكتب في التحليل النفسي من الفرنسية إلى العربية، كما استطاع رفقة الدكتور بلغازي الذي التحق بالشعبة قادما من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1981 من تطوير تقنيات التشخيص المرضي وذلك بتخصيص حصص دراسية لتدريب الطلاب على إتقان استعمال الاختبارات الإسقاطية ، حيث خصص لنا الاستاذ بلغازي سنة بكاملها للتعرف على اختبار "رورشاخ"' الذي كرسنا له كل طاقتنا الذهنية والعملية من أجل فهمه والسيطرة على تقنياته والرموز المعتمدة في تشفير أجوبة المستجوبين، وطريقة قراءة وتأويل نتائجه...
كان الراحل بن حدو منارة نوعية في سياق جامعي كان يحفل بالتجديد في كل ميادين المعرفة بدءا من التيارات الفلسفية المعاصرة وظهور مدارس تقوض النظريات السوسيولوجية المهيمنة آنذاك والتي كانت تبتغي التاريخ والجدل وسيلتين لفهم النصوص والعالم والإنسان... لكن في الاتجاه الآخر كان بنحدو يدافع عن النظرية التحليل النفسية، وكان يقدم دروسا معرفية محضة دون حرتقة أيديويولوجية، ...كما كان له تنسيق مع الكثير من الأطباء النفسانيين على الصعيد الوطني الذين كانوا يرغبون في تبني ما كان يسمى ساعتها بالتيارات المضادة للطب النفسي التقليدي "antipsychiatrie الممثلة آنذاك في كتابات " roger labastide " ورفاقه...
رحيل الدكتور محمد بن حدو ابن منطقة بني ملال هو خسارة كبرى للجامعة المغربية ولكل الباحثين والمهتمين بميادين الدراسات النفسية المرضية، وخسارة أيضا لرفاقه وطلابه وزملائه الذين شاركوه مسيرته العلمية ونضاله الفكري الطويل والصامت..
أشرف رحمه الله على البحث الذي أنجزته للحصول على شهادة الإجازة في علم النفس، وكان موضوع البحث هو " المظاهر السيكولوجية لمرض السيفلس بالمغرب" دراسة نظرية وتطبيقية على حالات مرضية".. لقد تعلمت في هذا البحث الكثير من الاشياء ، حيث أنجزت جانبه التطبيقي بمستشفى خنيفرة الإقليمي بعدما منحني الطبيب الرئيس الراحل الدكتور خالف أوشريف رخصة الاشتغال إلى جانب طبيب مختص في هذه الأمراض الجنسية المنقولة جنسيا... ولقد سعد بن حدو كثيرا بهذا البحث وأثنى عليه، وبالمناسبة وهذا أمر لابد من ذكره أن الدكتور بن حدو أخبرني في آخر السنة الرابعة وبعد ظهور النتائج وحصولي على ميزة في الامتحان النهائي أنه وقع علي الاختيار رفقة شابة أخرى كانت تدرس معي في نفس التخصص للاستفادة من منحة دراسية بفرنسا والعودة بعد الحصول على الدكتوراه إلى فاس للتدريس في الشعبة، كانا التخصصان هما علم المرضي وعلم النفس التجريبي... لكن بعد انتهاء عطلة الصيف واتصالنا باإدارة الكلية تم إخبارنا أن رئيس الشعبة آنذاك قد قام بتحويل كل المنح إلى شعبة الفلسفة العامة التي كان هو المشرف عليها... بن حدو كان عفيفا، لطيفا، هادئا، متشبعا بالحداثة النفسانية التي استوعب بعمق مدارسها ونظرياتها، وكان يشق طريقه في سياقات أحيانا عدائية لكونها كانت سجينة بعض الآراء السائدة والأحكام الجاهزة حول فرويد ونظريته أو حول وظيفة علم النفس بشكل عام في سياق ثقافي يهمين عليه التقليد والجاهزية... ولعل من أبرز بصمات الدكتور بن حدو هو هذه الأجيال المتعددة المشارب والتخصصات والأعمار التي تتدافع اليوم لتقدم شهادتها في حقه كعالم جليل وتأبينه بالطريقة التي يستحقها من لدن مختلف طلابه من كل الأجيال ... لقد درسني رحم الله سنوات 82/81/80طبعا بجامعة ظهر المهراز أو قلعة الصمود الطلابي بفاس ... تغمد الله استاذنا الكبير محمد بن حدو بواسع رحمته وألهم ذويه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون... وجعل علمه وأثره صدقة جارية له إلى يوم الدين...