الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

احتفاء بابن ميدلت: يوسف أيت المقدم.. الجبال تظل نابضة بالحياة على الدوام

احتفاء بابن ميدلت: يوسف أيت المقدم.. الجبال تظل نابضة بالحياة على الدوام يوسف أيت المقدم

اختيار الباحث  يوسف أيت المقدم ضمن 30 شخصية ملهمة في المغرب، ضمن كتاب صدر باللغة الفرنسية، لم يكن عبثا، بل كان خاضعا لرؤية ثابتة وواضحة، تتلخص في ثلاث كلمات: الصرامة والخيال والعاطفة. فمسار أيت المقدم (ابن ميدلت)، حافل بتراكم دراساته ومنجزاته العلمية الرصينة، خاصة في مجال سبر أغوار اللغة الأمازيغية، إذ أنه يعتبر أن النهوض باللغة الأمازيغية لن يتم دون الانفتاح على المصطلحات العلمية والفلسفية الحديثة، وبصفة خاصة الانفتاح على الإعلام باعتباره وسيلة العصر لتطوير اللغة...
"أنفاس بريس" ترسم (عبر هذا البورتريه) معالم من سيرة الباحث اللغوي أيت المقدم ومساره في الحياة والبحث العلمي:

 

لم تحد الجبال المتعرجة من بصره، لأنه أدرك مبكرا، حين كان يرعى الأغنام في القمم والسفوح، أن قدره هو أن يصبح واحدا من مصممي الخرائط المهتمين بجعل الطبيعة مكانا سعيدا للإقامة، وأن النجاح في الحياة هو أن تتمسك بأي شيء تحبه، وتؤمن به.

آمن يوسف أيت المقدم بأن هناك قرية تسكنه وتضمه وتحميه، هناك في "آيت عياش" (إقليم ميدلت) المنغرسة في خاصرة  الجبل، وأن قدميه لا تهتزان في الهواء الذي يملأ رئتيه. هناك فتح عينيه، وهناك تعقب زئير الريح وحفيف أشجار التفاح، وتلك الممرات الطويلة التي يلتف بها الجبل.

في تلك القرية، التي يطوق عنقها علو يمتد على ارتفاع 1500 متر، عاش يوسف داخل عائلة من المزارعين الذين وهبوا سواعدهم للحفاظ على اخضرار السهول، وعلى استرداد ما يهبهم الحياة من قاع الأرض. وهناك، ومثل جميع أقرانه الأطفال، كان يوسف يرعى الأغنام، مربوطا إلى الأعالي بحبل سري لا فكاك منه، وإلى الأذرع الهائجة للريح وهي تصفع وجهه الصغير وتعلمه أن الجبل محشو، رغم  قساوته ورهافة دفاعاته، بألف نجمة قد تضيء ذلك المستقبل البعيد..

وحين قام والده بتسجيله في مدرسة القرية، حمل معه نجمته التي كانت تضيء قلبه، وتراكم في "الدرس المدرسي" بخطوات مفعمة بالإصرار على التحدي، ليضمن لنفسه حياة مكتنزة بما ظل يبحث عنه دائما.  وبالفعل تدرج برشاقة الوعول في أسلاك الابتدائي ثم الإعدادي فالثانوي، لكن كبوة "البكالوريا" في الدورة الأولى  لم تثنه عن إطلاق صراخ التحدي من قلب تعلم في المآزق أن يكون صلدا كصخور الجبل، وبالفعل تمكن من اجتياز الدورة  الثانية من الباكالوريا بامتياز، ليلتحق بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، دارسا للغة واللسانيات، ولم يكن الدافع إلا التجربة اللغوية "الصعبة" التي عاشها يوسف الطفل بسبب أساتذته الأوائل الذين ظل يقدّرهم . ذلك أن نظام التعليم كان مغلقا على لغتين (العربية والفرنسية)، فيما كان أطفال الأمازيغ يحاربون التلعثم، ويسافرون قسرا نحو "أبجدية" أخرى تختلف عن لغتهم الأم، مع ما يصحب ذلك من توتر ومفارقات تنتصب أمامهم كأنشوطة مدلاة على أعناقهم.

لم ينس يوسف آيت المقدم كل ذلك، وقرر أن يتكئ بالعلم على اللغة الأمازيغية، وأن يعمل من أجل إخراجها إلى الوجود الفعلي والرسمي كطائر أبيض جميل يحسن التحليق كأي لغة "علمية" و"عملية" أخرى.

لقد آمن يوسف آيت المقدم أن "النهوض باللغة الأمازيغية لن يتم دون الانفتاح على المصطلحات العلمية والفلسفية الحديثة، وبصفة خاصة الانفتاح على الإعلام باعتباره وسيلة العصر لتطوير اللغة" مطالبا بوقف احتكار اللغة العربية والفرنسية لوسائل الإعلام العمومية"، ولذلك سيدافع عن أطروحة دكتوراه في جامعة السوربون بعنوان "مقدمة إلى لغة أيت عياش" ، أي تلك اللغة  الخاصة بمنطقته الأصلية، ومن ثم سيستثمر زاده المعرفي في علوم التربية وعلم النفس التربوي والتعليمي، كما أجرى  أبحاثًا في بلجيكا وفرنسا. ذلك أن شغله الشاغل، على المستوى المهني والجمعوي، كان هو "كيف يمكن الوصول إلى تدريس لغة أمازيغية تحافظ على الانسجام الأمازيغي؟"، و"كيف يمكن للغة الأمازيغية أن تقف بقدم راسخة أمام "العولمة اللغوية" التي باتت تهدد حتى اللغات الأكثر قدرة على المقاومة"؟

ولما كان الجواب على هذا السؤال ليس سهلا، فقد دأب يوسف أين المقدم، بصفته عضوا في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ومديرا لمركز التكوين والتوجيه وناشطا لغويا، على القيام برحلات مكوكية عديدة بين المغرب وأوروبا، مما أكسبه سمعة جيدة بين الأوربيين. يقول: "جاءني الطلاب والأصدقاء الفرنسيون والبلجيكيون الذين أرادوا اكتشاف المغرب، فلعبت دور الوسيط بكل سرور لأجعلهم يكتشفون ما خفي عليهم".

لقد اكتشف هذا اللغوي المسكون بأمازيغيته لغة أخرى، أكثر التصاقا بالأرض والطبيعة، وأيضا بالثقافة، حيث أن الوافدين على "منطقته" كانوا يحملون معهم جمالا بديعا ينقلونه إلى أصدقائهم ومعارفهم، لتتعاقب الزيارات بعد كل إقامة، فتزايدت الطلبات على زيارة المنطقة، وعلى خدمات يوسف الذي ساعد الشباب الأجانب، من خلال إنشاء مواقع دولية، على إقامة صداقات مع بعضهم البعض، وأيضا على التواصل مع الأمازيغ، وعلى النظر بحب وامتنان إلى أشجار الصنوبر والسرو التي زرعوها بأياديهم!

هكذا، إذن، قرر أيت المقدم أن ينطلق إلى سرعة أخرى في عام 2008، حيث اشترى قطعا صخرية من الجرانيت. لم يكن تمة شيء في هذه الأرض ينمو. لكن بفضل الطاقة والصبر والإصرار والمثابرة، أصبحت تلك الأرض الملحية منتزهًا بمساحة 40 هكتارًا. إذ ارتفعت فيها الأشجار أولاً، ثم بدأت عرائش النباتات بتظليل الموقع شيئا فشيئا، كما تم إنشاء مرافق صحية صلبة، وبعدها خمسة أكواخ سياحية من الطوب، لِيَلِي كل ذلك إقامة فندق جيد الصنع وبديع التكوين، يخلب النظر ويسر الزائرين. بل أكثر من ذلك، لقد حوله يوسف إلى "مجمع قصر تمناي السياحي" تحول تدريجيا إلى جزء من النظام السياحي في منطقة ميدلت الذي يقوم على مقبرة عمرها 3000 عام، وجسور معدنية، ومناجم مهجورة، ومشاغل فخارية، فضلا عن المزارات التي كان يتردد عليها الرعاة قديما.

لقد أدرك آيت المقدم، بحدسه الجبلي المبكر، أن أرض طفولته يمكن أن تتحول إلى قيمة سياحية مضافة، وأن هذا العمل بوسعه أن يحسن الحياة اليومية للقرويين. هذا هو فخر الرجل الذي لا يقل درجة عن فخره بمساهمته في محاولات إيجاد الشروط الملائمة لإدماج اللغة الأمازيغية في المناهج المدرسية المغربية. أضف إلى ذلك مساهماته في المساعدة المقدمة لمواطنيه في الجبال، وخاصة  بعض النساء اللواتي مكنهن من الحصول على مغاسل ونافورات أقيمت بجوار منازلهن الجبلية، حتى لا يرغمن على السير مسافات طويلة من أجل  إحضار الماء.

إن نجاح يوسف أيت المقدم، الذي اختير ضمن 30 شخصية ملهمة في المغرب، يقوم على رؤية ثابتة وواضحة، تتلخص في ثلاث كلمات: الصرامة والخيال والعاطفة. ولذلك، فإنه لا يتردد في إسداء هذه النصيحة: "لا توافق أبدًا على القيام بعمل لست متحمسًا له. امتلك الشجاعة لمتابعة شغفك. لا تنشغل بالمال، فإذا كان المال هو دافعك الوحيد، فستفقد حياتك. وليس لديك الحق في أن تفقد حياتك"..