تطفو على سطح النقاشات السياسية ظاهرة الترحال السياسي، مع اقتراب كل محطة انتخابية، وهي ظاهرة ليست جديدة وليست وليدة سياق سياسي معين، بل هي ظاهرة قديمة.. فغالبا ما نلاحظ مع قرب كل محطة انتخابية أن عددا من الأشخاص غادروا حزبهم في اتجاه أحزابا أخرى، كما نلحظ كذلك أن عددا من المنتخبين قدموا استقالتهم من مؤسسات منتخبة. فما هي دوافع هذه الظاهرة في السياق السياسي المغربي؟ ما هي تأثيراتها؟ وكيف يمكن تجاوزها؟
إن الحياة السياسية كانت ولا تزال تعرف ظاهرة الترحال السياسي، وبإمعان النظر في هذه الظاهرة، يمكن أن نستنتج أن هناك مجموعة من الدوافع التي تساهم في تكريسها، لكن تبقى الأحزاب السياسية نفسها في مقدمتها.
فلا يمكن تحميل المسؤولية لأي جهة أخرى، في هذه الظاهرة، غير الأحزاب السياسية في حد ذاتها، على اعتبار أنها تخلت عن مجموعة من الأدوار التي ينبغي أن تضطلع بها، من تأطير وتكوين وتربية أجيالها على قيم ومبادئ الديمقراطية، مقابل اهتمامها المفرط بأشياء أخرى ربما تراها أولوية بالنسبة لها.
فهناك من يسوق ويروج دائما أسباب هذه الظاهرة وظواهر أخرى، إلى الإدارة عبر تدخلها في الحياة الحزبية والديمقراطية، وهذا القول، ربما كان في سياقات سياسية تاريخية معينة، لكن اليوم هذا الادعاء، أعتقد، لم يعد مقبولا ولا منطق له، في إطار الإمكانيات والصلاحيات والوسائل التي تتوفر لدى الأحزاب والمؤسسات المنتخبة، في إطار نهج الخيار الديمقراطي كمبدأ أساسي من مبادئ النظام السياسي المغربي.
إن من بين المشاكل، في اعتقادنا، إضافة للتأطير والتكوين، ذلك المرتبط بفشل الأحزاب السياسية في احتواء تناقضاتها وصراعاتها الداخلية، وعدم قدرتها على النقاش الصريح والدخول في توافقات وتفاهم، وهو من يفتح المجال أمام هذه الظاهرة، ويدفع بمغادرة أعضاء الحزب لحزبهم، وهو ما يشجع بالمقابل أطراف أخرى لاستغلال هذه التناقضات والصراعات، وتعمل بالتالي على استقطاب أعضاء ذلك الحزب.
وفي سياق البحث في تأثيرات هذه الظاهرة، فإن هذه الظاهرة لها انعكاسات وخيمة تؤثر وتسيئ للحياة السياسية، كما تسيء كذلك إلى طموح وتطلع رئيس الدولة الملك محمد السادس من انتظاراته من الأحزاب السياسية، ففي العديد من خطبه ورسائله الملكية دائما ما يؤكد على مسألة تخليق الممارسات الحزبية والاهتمام بجوانب التكوين والتأطير والمشاركة السياسية وبناء الثقة.
هذه الظاهرة تكرس الهوة وتعمق عدم الثقة في السياسي وفي المؤسسات المنتخبة، فالمواطن مع اقتراب كل محطة انتخابية لا يشعر وكأنه معني بالسياسة، لأنه لا يجد نفسه في النقاشات التي تطبع الحياة السياسية قبيل المحطات الانتخابية، فلا حديث سوى عن الترحال، الترشح، الانتخاب، التصويت، الدوائر...، وبالتالي هو كمواطن لا يجد ذاته وتطلعاته، لأن الأحزاب تظهر على أنها تعطي لهذه الآليات أكثر من حجمها، فالنقاش الذي ينتظره المواطن في اللحظة هاته، هو تقديم الحساب والإنجازات من طرف الأحزاب الممثلة في كافة المؤسسات المنتخبة، مقابل طرح بدائل وبرامج اجتماعية واقتصادية للنقاش والتدارس...، خصوصا في سياق الوضعيات والمشاكل التي تتخبط فيها عدد من القطاعات ببلادنا، والتي زادت حدتها مع جائحة كوفيد 19، وذلك باستثمار أفكار النموذج التنموي المطروح لمحاولة الإجابة عن هذه التحديات بعد الانتخابات...
ولتجاوز هذه الظاهرة، هناك عدد من المدخلات، فضلا عن الجانب القانوني والتعديلات الأخيرة المهمة بخصوص هذا الأمر، فإنه أولا على الأحزاب السياسية اليوم أن تفهم أن الانتخابات هي وسيلة وآلية ديمقراطية فقط، للوصول إلى مؤسسات منتخبة، والهدف هو خدمة المواطن، وليست هي الغاية في حد ذاتها، ثانيا الدفع في اتجاه تخليق الممارسة الحزبية عن طريق ترسيخ قيم الديمقراطية الداخلية، فمن حق جميع الأفراد المنتمين للأحزاب أن يترشحوا باسمه للانتخابات، وفق أشكال ديمقراطية، بشروط موضوعية على أساس الكفاءة والقدرة وهذا ما أكده الملك محمد السادس في عدد من المناسبات، مقابل القطع مع سلوكات سيئة مرتبطة بتزكية أفراد لأسباب أخرى، ربما المتحكم فيها المنطق القبلي والعائلي والنفوذ والمال...
فالحياة السياسية والعامة بعد سنة 2021 في حاجة إلى نخب وكفاءات جادة وقادرة على التدبير وتحمل المسؤولية، تكون في مستوى تطلعات أعلى سلطة في البلاد وما تصبو إليه، ومن ثم في مستوى تطلعات وانتظارات المواطنات والمواطنين، لتحقيق التنمية المتوازنة، الشاملة، والعادلة.
- عبد السلام لعريفي، باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري