مداخل إصلاح المنظومة التربوية كثيرة، الأسئلة كبيرة ومعقدة، التدخلات بدورها تحكمها خلفيات استراتيجية ذات صلة بأصحابها والجهات التي تمليها، لكن المدخل الأخلاقي يعتبر في نظرنا أولوية تستدعي مراجعة شاملة لمختلف مكونات العملية التعليمية على قاعدة استنهاض عقيدة الواجب لخلق رجة فكرية وسلوكية في الحياة المدرسية في سياق مراجعة البرامج والمناهج والمقررات بما تقتضيه الحاجة ويحدده التشخيص.
نقصد بعقيدة الواجب جانبا من الفلسفة التربوية التي تؤطر الرؤيا العامة، وتحدد التوجهات التربوية الكبرى، وترسم بالتالي الملامح المستقبلية لشخصية التلميذ الذي سيقضي سنوات من عمره في رحاب المدرسة.
يتعلق الأمر باستعادة لقيمة العمل والوقت والشعور بالمسؤولية عند كل من يمارس التربية والتدريس، إلى جانب المتعلم وكل الفاعلين الآخرين، وذلك في ارتباط وثيق بترسيخ مفهوم النظام واحترام معاييره في مخيلة التلاميذ خلال كل مراحل تعلمهم. على هذا الأساس أقيمت المدرسة كمؤسسة منذ نشأتها وتطورت دون الإخلال بهذه المرتكزات التي هي صلب مهمتها وجوهر فلسفتها.
الدخول إلى المدرسة معناه المضمر والأولي هو ولوج عالم منظم، مجال نوعي، تتخلله قيم محددة، يحتل فيها احترام قواعد السلوك والحركة والنشاط قيمة كبرى، إلى جانب التمرين على العيش وسط جماعة، تختلف عن جماعة الأسرة والحي والأصدقاء. هي صيغة غير معلنة، لكن على المربي إدراكها بشكل واعي كجزء من مهمته البيداغوجية، بل وكعنصر قيمي لا محيد عن استحضاره خلال مختلف الأنشطة التي تقترحها البرامج والمقررات.
ينبغي أن تكون المدرسة هي الفرصة المثالية لتعلم معنى النظام العام، حيث أن السلم في المجتمع الخارجي رهين بالقيم التي تبثها التربية النظامية، بخلفية تمرين التلاميذ على قبول القوانين واحترام التشريعات والاستئناس بالحياة المدنية في صيغتها العمومية. لهذا بات من الواجب أن يمتثل الجميع للضوابط الناظمة للحياة المدرسية، بغض النظر عن العلل التي يمكن أن تشوبها ، منطلقين في ذلك من مسلمة عدم وجود قوانين مثالية وتشريعات عادلة بشكل مطلق...
ليس هناك تصادم بين الحريات التي يقتضيها سن المتمدرسين، ورغباتهم التي لها علاقة بسنهم وحاجياتهم النفسية والاجتماعية للتعبير عن الذات وفرض الاختلاف من جهة، والقوانين والأنظمة التي ينبغي أن تحترم لحماية المشترك وتنظيم الحياة الجماعية داخل فضاء عام من جهة أخرى. فكل تصادم ينبغي إحالته على نقاش تربوي جدي داخل المجالس التربوية المختصة، قصد فهمه ومعالجته بقيم النظام والواجب والحرية بنوع من التوازن والاعتدال. هكذا سنصبح أمام تمرين مهم ولو أنه عسير، لكنه سيضمن للتلميذ انخراطا سلسا في الحياة المدنية والسياسية لبلده دون خضوع سلبي، أو تمرد متوحش.
فلسفة الواجب تقوم على احترام النظام بالدرجة الأولى، ومفهوم النظام يبدأ في التشكل داخل العقل، كمهارة ضبط السلوك وجعله خيرا للذات وللآخرين، بمعنى ينبغي كنس البرامج التي لا تخضع وحداتها ومفاصلها وأسئلتها وقضاياها ورهاناتها للنظام العقلي، وإزالة القيم التي تسوغ التحايل، وتبرر التحلل من المسؤولية.
يبدأ الواجب من احترام الوقت واعتباره إطارا لكل عمل وتفكير وإنجاز، واستغلاله بشكل عقلاني ومفيد واستشعار التلاميذ بجدواه وخطورة إهماله. وهذا سلوك ليس من السهل إتيانه، لأنه تربية أسرية وتمثل اجتماعي ورؤيا ثقافية من الصعب تغييرها بشكل سريع.
الواجب هو أن تنجز ما هو مطلوب منك إنجازه في الزمن المخصص له، وأن تفعل ذلك برضا وطواعية واستجابة للضمير المهني والأخلاقي. من هنا وجب استبعاد المكافآت العشوائية التي ترسخ الكسل وتبرر التراخي. بين الانضباط والحرية يكمن مفهوم الواجب.
هكذا يمكن تغيير المدرسة من الداخل، أي من تعديل بوصلتها الأخلاقية، وتقويم الأداء على ضوء قيمة الواجب بدل من الانسياق وراء مفاهيم الفعالية والسرعة والإنتاجية التي توافق مزاج المقاولات ولا تتماشى وطبيعة الفعل التربوي الذي هو من جهة أولى طقس إنساني مركب الدلالات، وأداء أخلاقي ومنتوج مؤسسي متعدد الأبعاد من جهة ثانية...