عندما اعتقلنا وحوكمنا في دجنبر 1981 كنا نخفي عن عائلاتنا وعن الحراس وضعنا النفسي، وكانت الأسر من جهتها تخفي عنا الوضع المادي والمعنوي للأمهات خاصة، وكان الجميع يحاول تصدير الطاقة الإيجابية إلى غيره من المعتقلين وأسرهم، بدليل أن يوم الزيارة كنا نعير لبعضنا البعض الملابس الأنيقة حتى لا يرانا الزوار ضعاف النفوس ومترديي المعنويات، وكذلك في الرسائل المتبادلة، وعلى الخصوص التي كان الرقيب ينسخها ويبعثها إلى الجهات المتخصصة.
ولأن منا وفينا من له سوابق ومنا من يخوض التجربة لأول مرة، فكنا نعتبر أن الصمود معنوي وموضوعي قبل أن يكون ذاتيا وإرادويا، وكنا نقضي على اليأس والضجر بالقراءة أو الغناء والرياضة، كنا نتواصل معرفيا، وكنا نكثف تضامننا مع كل رفيق حاول الاستسلام للانهيار، نرفع من معنوياته، وكان همنا الوحيد التعايش مع المعاناة ومواجهة الوقع المفترض للقمع، فللأثر النفسي تداعيات خطيرة في العلاقة مع الصمود، وكذلك كان خلال فترة الإعتقال الثاني، رغم إختلاف التجربتين، بحكم التراكم والخبرة المتحصلة، فبغض النظر عن ضرورة مناهضة آلة القمع والإكراه السيكولوجي؛ كان لابد من التصدي للتأنيب الذاتي والندم الذي ينتاب الشعور به عددا منا في لحظات الضعف والهوان، ومهما بلغت معاناتنا كنا نتقمص شخصية أبطال وطننا العزيز، ونتخيل لهم التمجيد والتقديس أحيانا، وكل هذا حتى نحول عذابنا إلى قوة مادية نغير بها قوة واقعنا السجين.
هذه فقرة من إحدى الخاطرات التي أعيد كتابتها يوميا بمزيد من الحماس الإرتجاعي، كمن يتذكر لحظة أول لغمة في حياته، مفعمة بالحيوية والشباب، وأظن أن بعضا منا هذه الأيام لا يكثرت لأهمية رفع المعنويات والتمسك بالأمل، ولست ادري ما ألذي دفعني إلى الوعي بضرورة تقاسم هذه الفقرة من الخاطرة / الذاكرة، وتساءلت مع نفسي بمثابة أول إفتراض: أليست طريقة تدبير وتوثيق بعض شبابنا لما يتعرض له افراد أسر معتقلي العهد الجديد، حيث ربما يظنون انه بإثارة مواجع الأمهات ونشر معاناتهم عارية أمام الجلاد والناس قد يؤثرون على القرار او يصنعون رأيا عاما، فلحسن الحظ أن مناضلي حراك الإجتماعي، رغم افقهم الفكري وسقف مطالبهم السياسي، واعون بأنهم يخوضون صراعا مقابل كلفة وتضحيات، فلن ينال من عزمهم ما يجري لذويهم، ولكن بنفس القدر علينا الوعي بأن الصمود ينبغي أن ينال من بقية محيط المعتقلين ايحابيا، عوض أن يكون لتضخم نشر وإشهار المعاناة وقعا عكسيا على الجيران والاصهار، لذلك ادعو الشباب إلى تدوين المعاناة وتوثيقها للذاكرة وللتاريخ، دون تصدير الخوف أو القلق، فلم يسبق أن كانت تلك وسيلة للتحميس أو رفع المعنويات أو حتى إثارة الشفقة .