مرة أخرى يقفز موضوع الأقليات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى واجهة الأحداث، مزيحا عن عرش الأولويات في المنطقة موضوع محاربة الإرهاب، الذي لم يعد يستحوذ على الاهتمام الأكبر بعد انحسار داعش واندحارها في معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها، واضطرارها إلى اللجوء لأسلوب الذئاب المنفردة التي لا تزعج وتؤذي إلا المواطنين العاديين الأبرياء، ولا تغير شيئا في الوقائع على الأرض.
ورغم تفاوت حدة هذا الموضوع، وتباين الأشكال التي اتخذها للقفز إلى الصدارة من جهة لأخرى، فقد كان مثيرا للانتباه أن عددا من ملفاته، وخاصة الملغومة منها برزت بشكل متزامن لكأن الأمر مقصود، ووراءه جهات ما تريد استخدامه مرة أخرى لتوتير دول المنطقة وتأجيج نيران الاضطرابات والنزاعات التي تفترسها أكثر فأكثر، وعدم منحها فرصة لالتقاط الأنفاس من جراء ما عانته وما تزال من ظاهرة الإرهاب في شتى تجلياتها.
إن إطلالة خفيفة على مجريات الأوضاع وتطوراتها في المنطقة تشير إلى تزامن في حصول عدد من الأحداث المرتبطة بموضوع الأقليات بعيد عن أن يكون قد حصل صدفة. ففي الوقت الذي شد الاستفتاء على استقلال كردستان العراق انتباه العالم، وما تزال تبعاته تتوالى أجرى أكراد سوريا أول انتخابات لتشكيل إدارة ذاتية في مناطق تواجدهم، وانطلقت أصوات بعض من رجال الدين الأقباط في مصر مطالبة بوضع خاص للأقباط يقيهم ما يدعونه من وجود اضطهاد ممنهج لهم، وطفت إلى السطح مجددا وضعية الشيعة في المملكة العربية السعودية بعد النفخ في رماد أعمال الشغب في قرية العوامية بشرق البلاد.
لم يقف هذا التزامن عند المشرق فقط، وإنما امتد إلى المنطقة المغاربية حيث السعي إلى ضخ المزيد من التناحر في النعرات القبلية والجهوية في ليبيا على أشده، وحيث أحلام فرحات مهنى بالنسبة لمنطقة القبائل في الجزائر تجتهد لاستعادة زخمها المعهود، فيما لم يدخر كثيرون الجهد محاولين تسييس حراك الريف في المغرب وإخراجه من سياق مطالبه الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، ودمغه بنزعة انفصالية، لا يزال البعض يذكي جذوتها في سعيه إلى الإساءة للوحدة الترابية للمملكة من خلال أقاليمها الجنوبية.
هكذا يبدو أن موضوع الأقليات يجري استكمال إعداده ليساهم بدور متميز في عملية تأزيم الأوضاع في المنطقة داخل الدول بين مكونات مجتمعاتها المختلفة، وفيما بينها بما في ذلك تركيا وإيران، سيما وأن هذا الموضوع الملتهب يرتدي أبعادا أكثر تعددا وأخطر من التطرف الديني، إذ يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع كبرى من الأقليات هي :
*المجموعات اللغوية غير العربية التي يمكن أن ندرج في إطارها الأكراد والأمازيغ والأرمن والترمان والشركس والأتراك والفرس والقبائل الزنجية، والنوبيين، إضافة إلى جيوب صغيرة آرامية وسريانية محدودة العدد.
*مجموعات دينية غير إسلامية في مقدمتها المسيحيون بمختلف طوائفهم الكاثوليك والمارونيين والبروتستانت والأورثوذوكس والأقباط واليعاقبة، إضافة إلى أقلية الصابئة المندائية الأيزيدية، وأقليات يهودية صغيرة ما زالت في بعض الدول العربية وتركيا وإيران موزعة بين طائفتي القرائين والسامريين (لا يشمل الحديث هنا يهود إسرائيل، فهؤلاء معظمهم مستوطنون مهجرون ومقتلعون من مجتمعاتهم غصبا عنهم) .
*طوائف إسلامية غير سنية وأبرزها الشيعة بمختلف مذاهبهم الجعفرية والزيدية وبعض المجموعات المغلقة كالعلويين النصيريين والإسماعيلية والأحمدية، إضافة إلى الدروز الموحدين، والأباضية.
إن ما يشجع على الدفع بهذا الموضوع إلى الصدارة وتوظيفه ثانية لزيادة حدة عدم الاستقرار وتوسيع هوة فجوة عدم الثقة داخل المجتمعات وما بين الدول هو تقاعس الأنظمة والحكومات في المنطقة عن السعي الجاد لإيجاد حلول حضارية، إنسانية وديمقراطية لمختلف تجليات هذه الظاهرة، رغم أن دولها تعاني منها منذ أمد طويل.
ورغم التفاوت في حدة وتطرف المطالب المرتبطة بالأقليات بين مطالب وصلت إلى حد الجهر بالانفصال واتخاذ الإجراءات العملية لذلك (كردستان العراق) وبين الباحثة عن الاعتراف بالخصوصية والمساواة في المواطنة وصون الكرامة والعدالة الاجتماعية، فإن التعامل معها يجري بأسلوب يكاد يكون متماثلا بين كل الحالات.
يتكون هذا الأسلوب من خطوتين أساسيتين تنمان معا عن الجهل بالموضوع وعن العناد في التجاوب مع ما يطرح من مطالب ضمنه. ولا شك أن الجهل والعناد دليلان على رغبة دفينة في تأبيد الاستبداد.
1/ الخطوة الأولى تعتبر الظاهرة مستجدة ومبالغ في تصوير حجمها وتصوير قوة معطياتها التاريخية، وأنها في الغالب الأعم من فعل فاعل. ولكن في معظم الأحوال يفشل القائلون بذلك في تحديد هوية الفاعل فينسبونه إلى المؤامرة الخارجية.
2/ الخطوة الثانية هي التحرك للتعامل مع تجليات الظاهرة في آخر لحظة وبالمسكنات بعد أن تكون قد ارتدت طابعا متفجرا على الصعيد المحلي وشرعت الأبواب لتدخل الخارج إن بالتأثير مباشرة في الأوضاع أ اتخاذ موقف منها.
وإذا كان بمقدور هذا التعامل تهدئة الأوضاع، فإنه غير كاف البتة لإزالة عوامل التوتر والقلق واستئصال رواسبهما. وقد أثبتت الأحداث في أكثر من ساحة ذلك. فقضايا الأقليات الملتهبة وحتى الكامنة تحت الرماد ستظل قنابل موقوتة ما لم تعالج في إطار وطني شامل ينظر إليها باعتبارها مشاكل أثارتها وغذتها صراعات المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن بعض تمظهراتها تؤججها من حين لآخر شخصيات وأجهزة تريد استعادة أو تقوية مواقعها في دواليب السلطة وإداراتها.