ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف بقايا هيكل عظمي وجمجمة من العصور القديمة بمنطقة "إيغود" بنواحي آسفي ،لقد سبق للعلماء أن اكتشفوا بقايا هيكل عظمي وجمجمة بشرية قديمة، ولكن لم يسبق للحفريات أن عثرت على اكتشاف جد متطور عضويا على هذا النحو،جمجمة إنسان توحي أنه إنسان على شاكلة البشر الحالي من حيث التكامل البيولوجي المتسق الموحي بامتلاك العقل والذكاء وبناء الحضارة.
سبق للبعثات العلمية التي قامت بحفريات في منطقة إيغود ،أن اكتشفت جمجمة مماثلة قبل عشر سنوات أو أكثر تشبه هذه الجمجمة المكتشفة مؤخرا، وقد تم تحديد عمر هذا الإنسان الذي عمر منطقة عبده وعاش في كهوف جبال " درن "(يلقب ابن خلدون سلسلة الجبال المنحدرة من جال الأطلس الكبير المطلة على منطقة عبده الجنوبية بهذا اللقب) [1] أو في سهولها، بحوالي 200 آلف سنة، والجمجمة المكتشفة مؤخرا (شهر يونيو 2017) تتعدى هذا التاريخ أي حوالي 300 ألف سنة،بمعنى أن بالمنطقة مواقع أخرى توجد فيها بقايا الإنسان الماقبل تاريخي حسب الأماكن والمقابر أو الجثث المدفونة في العمق الجيولوجي لهذه المنطقة.هذا الاكتشاف يقلب رأسا على عقب نظريات الخليقة ونظريات التطور البشري ويقدم مستجدات علمية في هذا المجال.
قدم العلماء الإحيائيون (علم البيولوجيا-علم الأناتوميا والمورفولوجيا البشرية)[2]،تقريرا علميا شمل تشريح وفحص الجمجمة يقول أن الجمجمة المكتشفة في "إيغود" جمجمة إنسان عاقل وذكي وأنها متكاملة على مستوى" البنية المرفولوجية للرأس والوجه" وأن "الفكين منسجمين نسبيا معا" ولا يوجد تفاوت كبير بين الفك السفلي والفك العلوي،لأن التفاوت الحاصل بينهما يحدد القيمة الحضارية لهذا الإنسان ومستوى ذكائه ويحدد حقبة التطور البيولوجي التي قطعها؛ فكلما تراجع الفك العلوي وتقدمت القاعدة السفلية للأسنان وتفاوت الفك السفلي مع مستوى الأنف، إلا وكان الشبه قريبا جدا بينه وبين القردة، وكلما انسجم الفك السفلي مع الفك العلوي وكان طوله مستقيما مع مستوى الأنف كان الشبه أقرب بإنسان العصور الحديثة(نيوديرطاليان Neandértalien)[3].
ومن المعروف أن القردة ليست وحدها الكائن البشري المتخلف بنيويا (مورفولوجيا) بسبب هذا المعطى البيولوجي الرهيب،فهي التي تؤشر على هذا الفرق الشاسع بين الإنسان العاقل الذكي والبشر غير الذكي جدا أو يتمتع بذكاء بدائي وفطري، فهناك قبائل بشرية تعيش في الغابات الاستوائية ما تزال تحيى على النمط الماقبل تاريخي الذي كان عليه الإنسان البدائي القديم وبنية الرأس والوجه قريبة جدا من بنية الرأس والوجه عند القردة.وهنا أتفق مع بعض المفكرين في "نظرية الفك السفلي"[4] التي أعطت الحضارة، وخلاصتها أن تساوي الفكين وانسجامهما يسمحان بالنطق السليم والتفكير السليم ،لأن الإنسان حين عثر على وسيلة الخطاب والتواصل(أي اللغة) اكتشف نفسه واكتشف محيطه البشري واكتشف الحضارة.( ذهب خالص جلبي إلى أنها نظرية قائمة الأسس لعبت دورا كبيرا في تحديد التطور البشري وتاريخ الحضارة الإنسانية).وأكد شاهين عبد الصبور رحمه الله على أن الشبه بين بعض القردة ومجتمعات بشرية بدائية ما تزال تحيى على كوكبنا من حيث بنية الوجه وحجم الجمجمة،تشابه كبير ، وذلك يبرز بشكل جلي أن الإنسان خضع للتطور البيولوجي كي يقطع مراحل تاريخية مغرقة في القدم ليتحول إلى ما هو عليه الآن[5] . يفضل الدكتور شاهين عبد الصبور فكرة تعدد المجتمعات البشرية التي لا تتوفر على إنسانية متكاملة وتعيش كالحيوانات مستعملة بعضا من ذكائها الفطري ولكنها ليست من سلالة آدم.( انظر كتابه - أبي آدم - صدر في التسعينات وأعيد طبعه في 2010 )، كتاب شاهين عبد الصبور، أثار كثيرا من الجدل على الرغم من أن محتواه لم يكن علمي بالدرجة الأولى، إنما كان طرحه ديني وتفسيري فقط مما جعل الأزهر يتساهل معه ولا يصنفه في باب الكتب الملحدة.
هناك مغالطة كبيرة في اعتبار أن إنسان الكتب السماوية (آدم) إنسان لا يمت بصلة لإنسان ماقبل التاريخ، فالتراث الشفهي والشرح التفسيري للنصوص الدينية حددا الوجود الإنساني العاقل في حدود بعثة إبراهيم (8000 سنة قبل الميلاد) وهذا غير صحيح تماما، لأن هذه الفكرة جردت الحقيقية العلمية من مصداقيتها بالنظر إلى شروط التطور البيولوجي الحتمية للإنسان.هناك جملة من الوقائع - حقيقة - بعضها يتنافى مع سجلات التاريخ ويتناقض مع النظرية العلمية الحديثة، وبعضها الآخر يتطابق تمام التطابق مع مدونات التاريخ وسجل الأحداث التي مرت منها بعض الحضارات، وخير دليل على ذلك ، حضارة ما بين النهرين السوميرية (إبراهيم والملك النمرود) وقد قرن بعض علماء الآثار تواجد إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة مرتبط بأول إنشاء مدني في تاريخ الحضارة الإنسانية بعد الطوفان، ويتعلق الأمر ببناء مدينة "أور" التي تعتبرها حضارة الشرق أول مدينة بنيت في تلك المنطقة، أما قبل الطوفان فقد كانت حضارات قائمة في مناطق عدة من العالم. المؤكد هو أن الديانات السماوية تربط تاريخ وجود آدم بظهور الحضارة الشرقية القديمة بعد أن خرج من الجنة مباشرة وعاش على الأرض ليبني تلك الحضارة دون ضرورة للشرط التطور البيولوجي للإنسان كما تتبث ذلك نظرية التطور المبنية على مثل هذه الاكتشافات.
للإيمان بالطرح العقائدي الديني مهما كان مصدره يجب الاعتقاد في الرواية المقدسة لظهور الخليقة على الأرض،كما جاءت في الألواح ونقلتها ملحمة"جلامش" وكما وردت في الثوراة والإنجيل والقرآن والتواريخ تكاد تتقارب وتتشابه بين نصوص الوحي وما دونته الألواح الطينية في بدلاد ما بين النهرين.،وبالتالي نفي النظرية العلمية تماما وعدم الأخذ بها، شيء وادرإذا آمنا بالحقيقة التي جاءت في النصوص الدينية والعكس بالعكس.
الأبحاث الأرجيولولجية وقراءة التاريخ من وجهة نظر مقارنة تبين أن حضارة بلاد ما بين النهرين،حضارة حديثة مقارنة مع فجر الحضارة الإنسانية في أماكن أخرى من الكرة الأرضية وفي قارات أخرى منها القارة التي غرقت تحت البحر في المحيط الهندي المسماة قارة مي Le continent de Mue " وفيها حضارة عظيمة سبقت حضارة العراق ومصر واليونان وحضارة البلاد الأسيوية بآلاف السنين، وهي غير الجزيرة التي غرقت تحت الماء التي تكلم عنها "إفلاطون" وسماها ب"أطلنتيسAtlantis " والتي نعتها إفلاطون (بعدنAden ) وهي الجنة التي عاش فيها الإنسان أولا مرة ولم يكن محتاجا للعمل ليكسب قوة يومه . تقول نتائج البحث الذي قدمته الحفريات المكتشفة تحت مياه المحيط الهادي لمدن وبقايا آثار حضارة بادت تحت الماء ،انها تتعلق ببلاد واسعة كانت تشبه جزيرة مترامية الأطراف تملا فراغ البحر الهادي بكامله ازدهرت فيها حضارة خارقة للعادة منذ حوالي 50.000 سنة قبل الميلاد.اكتشف "المايا" هذه الحضارة التي كانت من صنع أجدادهم المتقدمين وتركوا عنها مدونات وكتابات عديدة تفسر كيفية اندثار تلك الحضارة بعد أن ضرب نيزك قارة " مو" واغرقها في البحر يرسمون آثارها على جدارن الأهرامات الرباعية الأبعاد الموجودة في وسط وجنوب أمريكا اللاتينية ويلقبونه ب"ثنين النار" الذي أغرق العالم . وهنا يجب فتح قوس طوفان نوح الذي أغرق العالم في تزامن تاريخي مع نهاية قارة " ميMue "[6]
في بلاد ما بين النهرين برزت الحضارة الآشورية وبعدها ظهرت الكتابة والتدوين والقوانين على يد الملك (آشور بانيبال)، وعقبتها الحضارة الكنعانية حيث تم اختراع العجلة وخروج النصوص الإلاهية (الوحي) وبالتالي النبؤوة على يد أنبياء من تلك الحقبة وهي حقبة تاريخية تحدد فعلا بحوالي 7800 سنة قبل الميلاد.ثم حضارة مصر القديمة (فرعون ذي الأوتاد، أي الأهرامات ) التي تقترب في التاريخ من حيث القدم مع حضارة العراق وحضارة اليمن (سد مأرب؛قوم تمود "الذين جابوا الصخر بالواد"كما يقول القرآن الكريم،أي بنوا السد، الجدار المائي ،وهو سد مأرب،الذي كان وراء ازدهار حضارة عظيمة بالمنطقة، وحضارة سبأ (تختصرها قصة بلقيس وسليمان)،وهناك الكثير من المقارنات التي يمكن الإدلاء بها في هذا الباب. التفاوت الكبير بين تاريخ وجود آدم كما ورد في الكتب السماوية ليس ضروريا ليقترن بوجود كائنات بشرية عاقلة وذكية عاشت على هذه البسيطة وتكلمت وصنعت حضارة من الحضارات، لأن الوحي(كتب الدين) تقول أن آدم نزل من السماء متكاملا لا يحتاج إلى تطور،أكيد أن المقارنة السطحية بهذا المفهوم من شأنها أن تجحف بالنظرية العلمية وأن البحث في هذا السياق يفند منقول الوحي في هذا المضمار وينفيه تماما، ولكن وجود قبائل بشرية تعيش على الفطرة البدائية وبنيتها تشكل حلقة من حلقات التطور البشري عبر العصور المغرقة في التاريخ، يضع علامة استفهام كبيرة على نظرية التطور البيولوجي خصوصا حين يكتشف البحث الأنثروبولوجي جمجمة إنسان عاقل متكامل البنية وفجوة الدماغ لديه متطورة مشابهة للإنسان النيودانترالي، أي إنسان العصور الحديثة ..؟ يمكن دحض الفكرة القائلة بوجود الإنسان الجاهز مطلقا وفكرة "أبي آدم" لشاهين عبد الصبور لسبب واحد سوى أنها تفسر بالظن السيميولوجي والتكهنات ولا تسبر غور التقصي العلمي عن طريق التجربة مما يضطرنا جميعا للخذ بمسار تطور نظرية التطور البيولوجي للإنسان عند داروين.
[1]الجزء السادس من كتاب العبر.
[3]حلقة جد متطورة في تاريخ التحول البشري نحو الإنساني.
[4]ذهب خالص جلبي إلى أنها نظرية قائمة الأسس وتحدد تاريخ الحضارة.
[6] أنظر كتاب"القارة المفقودة "مي" للانتروبولوجي جيمس شارشواردJems churchward صادرسنة 1959