من المحيط الفاتر إلى الخليج المتوجس الحائر، لا توجد بقعة استقرار واحدة، إذ تتشظى المنطقة التي تعتبر قلب العالم، ومحور ممراته البحرية الاستراتيجية بين مناطق تسودها حروب أهلية، وأخرى تؤرقها نزاعات حدودية بينية، وثالثة تنخرها انتفاضات واحتجاجات شعبية، وتفترسها جميعا خلافات إيديولوجية وصراعات عرقية ودينية ومذهبية، وتوترات معيشية واجتماعية.
هذه الأوضاع البائسة التي تزداد سوءا يوما بعد يوم ليست نتاج ثورات الربيع العربي واحتجاجاته كما يريد البعض أن يسوق تهربا من تحمل مسؤولياته، ورفضا للتنازل أوالحد من صلاحياته، وإنما هي قديمة وبعض ملفاتها تعود إلى الأيام الأولى من استقلال دول المنطقة وقبول أنظمتها إما بسذاجة أو بتواطئ للأسافين التي دقتها القوى الاستعمارية قبل رحيلها.
ورغم أن حالات عدم الاستقرار هذه متنوعة وتختلف درجات حدتها وقدرة تأثيرها على الأحداث والتطورات حسب كل حالة على حدة، فالواضح أن أساليب المعالجة تكاد تكون متشابهة إن لم نقل متطابقة. فالكل يدعو إلى الحوار بحثا عما يسميه قواسم مشتركة ومصالح متبادلة، ولكن لا أحد في الواقع جاد فيه سواء جرى هذا الحوار مباشرة أو من خلال آليات ومؤسسات دولية وإقليمية.
ففي الوقت الذي يتحدث الجميع عن الحوار، وفي بعض الحالات عن التفاوض والوصول إلى اتفاقات لا يعار الاهتمام الجدي إلا لما تفرزه موازين القوى على الأرض، بقوة السلاح في مناطق الحروب الأهلية والنزاعات الحدودية، وبالسطوة الأمنية حيث تسود الانتفاضات وتكثر الاحتجاجات العامة أو القطاعية ذات الطبيعة المطلبية ؛ الأمر الذي يدفع إلى حدوث المزيد من الاحتقان، وتمترس المواقف وتصلبها.
هذه المعطيات البادية للعيان في كل الساحات الملتهبة منها والمتوترة تشير إلى أن تسويق أطراف النزاعات والخلافات للحوار هو مجرد وسيلة لكسب الوقت لتغيير المعطيات في أرض الواقع وليس للبحث عن الحل. ولهذا لا تظهر في أفق أي صراع أو خلاف أي إرهاصات لتجاوز المشاكل وتخطيها وإعادة بناء العلاقات سواء أكانت بين مكونات المجتمع الواحد أو في إطار ثنائي بين دولتين على أسس سليمة وواضحة لا يشعر معها أي طرف بالغبن.
ومن سياق تطور الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما يتبلور عنها من مواقف، وينبثق من تصريحات يبدو أن أطراف كل المشاكل التي تنخر جسم هذه المنطقة بما فيها الدول غير العربية مصممة على المضي قدما في التشبث بمواقفها والتصلب في وجهات نظرها، غير مستعدة للقاء مع خصومها ومناوئيها في منتصف الطريق حقنا للدماء حيث تشتعل الحروب الشاملة أو النزاعات المسلحة المحدودة، وتوفيرا للموارد وتعبئتها للجهود التنموية بدل المقاربات الأمنية حيث تسود التوترات الاجتماعية.
إن هذا التصميم والتخندق في مواقف صارمة وقاطعة كما تجسدها الإملاءات والشروط المسبقة المتبادلة بين الأطراف المتناحرة أو المتنازعة والمختلفة يعكس ضيق الأفق لديها جميعا، بما يثبت أن النخب والأنظمة والقوى السياسية ما تزال أسيرة الرغبة في إقصاء الآخر المخالف أو المغاير، وإن أمكن استئصاله مستلهمة من التراث أكثر ما يميزه من عنجهية، فجميعها ينسى أن الاختلاف رحمة، وكلها يستحضر عنتريات أبو فراس الحمداني حين أنشد :
ونحن أناس لا توسط بيننا،
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر